البقرة الحمراء: عندما تصبح النبوءة مشروعاً سياسياً

في زاوية منسية من الأغوار الشمالية، ترعى خمس بقرات حمراء تحت مراقبة دقيقة. ليست هذه مزرعة عادية، ولا الأبقار مجرد ماشية. بل هي، في نظر البعض، المفاتيح التي ستفتح أبواب الهيكل الثالث، وستمهّد لعودة “المشياح” (المسيح اليهودي). لكن، كيف تحوّلت بقرة إلى رمز نبوءة، وإلى أداة حقيقية في لعبة اللاهوت والسياسة؟

البقرة الحمراء

البقرة الحمراء ليست كباقي الأبقار

ورد ذكر البقرة الحمراء في سفر العدد (الإصحاح 19)، وهي ليست مجرد حيوان طقسي، بل كائن نادر للغاية. يجب أن تكون حمراء تمامًا، بلا عيب، لم توضع عليها نير. في الماضي، كانت هذه البقرة تُذبح وتُحرق، ويُخلط رمادها بالماء ليُستخدم في تطهير كل من لمس ميتًا. ذلك لأن الموت، في العقيدة اليهودية القديمة، يُعد نجاسة عظمى تمنع الإنسان من الاقتراب من المقدس.

لكن الغريب في هذا الطقس أن البقرة – وهي بذاتها طاهرة – تتحول إلى وسيلة تطهير، بينما كل من يشارك في ذبحها أو حرقها يصبح نجسًا. كأنما الطهارة هنا تُستخرج من قلب التناقض. وكأننا أمام طقس يخبرنا أن من يقترب من المقدس، لا يخرج منه كما دخل.

غياب الطهارة… وغياب الهيكل

منذ دمار الهيكل الثاني عام 70 م، لم تُعرف بقرة حمراء تستوفي الشروط. وبالتالي، لا يمكن تطهير الكهنة، ولا يمكن استئناف الشعائر المرتبطة بالهيكل. هذا الغياب الطقسي ترك فراغًا لاهوتيًا، لكنه أيضًا خلق أرضًا خصبة للنبوءات.

بعض الجماعات الدينية في إسرائيل تؤمن أن ظهور البقرة الحمراء الجديدة هو علامة حتمية على اقتراب زمن بناء الهيكل الثالث. من هنا، تحوّل الحيوان إلى كائن نبوئي، إلى كود سرّي في سيناريو نهاية العالم أو بدايته، حسب العقيدة.

مشروع تربية البقرة الحمراء: حينما تصبح النبوءة قابلة للتصدير

في سبتمبر 2022، استوردت إسرائيل خمس بقرات حمراء من تكساس، الولايات المتحدة. هذه الأبقار، التي تم جلبها بتنسيق مع جماعات صهيونية ومسيحيين إنجيليين، تخضع اليوم للمراقبة الدقيقة في مزرعة قرب بيسان، لتقييم مدى مطابقتها للشروط الشرعية.

لم تُعلن تكلفة المشروع. لا توجد أرقام رسمية. لكن من المعروف أن “معهد المعبد” (Temple Institute) – وهو مركز ديني يعمل على إعداد أدوات ومستلزمات الهيكل الثالث – تلقّى دعمًا ماليًا من جماعات إنجيلية مسيحية، ترى في بناء الهيكل شرطًا لعودة المسيح في تصورها الخاص. هنا، تتلاقى نبوءات ديانات مختلفة، لكن بطرق متقاطعة ومتصادمة أحيانًا. كل طرف يعتقد أن ظهوره النهائي مرتبط بالهيكل، لكن لأسباب متباينة.

هل هذه نبوءات؟ أم مشاريع سياسية في لباس لاهوتي؟

طقس أم تمرين سياسي؟

في أغسطس 2024، انتشرت صور لمتدينين يهود يؤدون “تدريبات” على ذبح البقرة الحمراء بالقرب من المسجد الأقصى. لم تكن هذه الطقوس عشوائية، بل رمزية بامتياز. لقد أرادت أن تقول: نحن نستعد، ونحن نقترب.

بالنسبة للبعض، هذه مجرد طقوس دينية ضمن حرية التعبير. لكن بالنسبة للفلسطينيين والمسلمين، تبدو وكأنها مقدمات لإعادة تشكيل المكان الأكثر حساسية في العالم: الحرم القدسي، المعروف لدى اليهود بجبل الهيكل.

ذبح بقرة ليس فعلاً بريئًا هنا. بل هو خطوة رمزية تمهد لما بعدها، وتبعث برسائل سياسية قبل أن تكون لاهوتية.

حين تتحول النبوءة إلى تكنولوجيا

في العصر القديم، كانت النبوءة تأتي من الحلم أو الرؤية. أما اليوم، فهي تُصنع في المختبر والمزرعة. مشاريع تربية البقرة الحمراء ليست محاولات غيبية، بل مدروسة بعناية: فحوص جينية، مراقبة صحية، عزل بيئي… كل شيء يخضع للعقلانية الحديثة، في سبيل تحقيق رؤية ما قبل-عقلية.

إنها لحظة تلاقي العلم والأسطورة. أو ربما، لحظة تجنيد العلم في خدمة الأسطورة. لم يعد انتظار البقرة مرتبطًا بعناية الله، بل بعناية علماء البيطرة، وبتمويلات من تيارات مسيحية ترى أن إسرائيل هي بوابة تحقق النبوءات، حتى ولو اختلفت معها في العقيدة.

هل نحن أمام مشروع “آخر الزمان”؟

بناء الهيكل الثالث ليس مجرد طموح ديني. إنه خطوة كبرى تحمل معها تحولات في الجغرافيا والهوية والسلطة. فهو يعني، من منظور البعض، نهاية السيطرة الإسلامية على المسجد الأقصى، وبداية “العصر الموعود” في الرؤية اليهودية.

لكن في عالم متعدد الأديان والمصالح، هل يمكن أن تمرّ هذه التحولات دون زلزال؟

قد لا تكون البقرة الحمراء سوى تفصيلة – لكنها تفصيلة مشحونة بكل الطاقات الرمزية. إن ذبحها يعني بدء الطهارة، والطهارة تفتح الطريق نحو الهيكل، والهيكل يعيد تشكيل العالم.

الخاتمة: البقرة الحمراء حيوان أم نبوءة؟

في العمق، السؤال ليس عن البقرة. بل عمّا نسقطه نحن على الأشياء.

هل هي فعلاً مفتاح الخلاص؟ أم مجرد وسيلة لتغليف مشاريع أيديولوجية بدثار ديني؟

البقرة الحمراء، بحضورها الهادئ في مزرعة بيسان، تبدو بريئة من كل هذه المعاني. لكنها حُمّلت بما هو أكبر منها: التاريخ، الأسطورة، السياسة، وحتى نهاية العالم.

ربما، كما في الأساطير القديمة، لا تحتاج المعجزة لأن تتحقق لتترك أثرها. يكفي أن نؤمن بأنها قريبة… حتى تبدأ التحولات من حولنا.