المسجد الأقصى رمز لا يموت. فالأقصى ليس مجرد مسجد. فهو لم يكن مركزًا للعبادات كما هو حال مكة أو المدينة، ولم يكن يومًا مقرًا لخلافة إسلامية طويلة. لكنه ظلّ دومًا رمزًا لشيء أكبر: العدالة، العودة، الانتصار، وربما حتى الخلاص.
الرموز لا تحتاج إلى منطق، بل إلى شعور. وكل مجتمع بحاجة إلى رمز يمسك به في وجه الفوضى. بالنسبة للفلسطيني، الأقصى هو آخر ما تبقى من الحلم. بالنسبة للعربي، هو مرآة لما كان يجب أن يكون. وللإسرائيلي، هو إثبات النبوءة. وللمتصوف، هو باب المعراج.

موقع مسجد الأقصى
يتربع المسجد الأقصى على هضبة مرتفعة تُعرف بجبل الموريا (Mount Moriah)، وهو واحد من أعلى النقاط في القدس القديمة، مما جعله دائمًا موقعًا استراتيجيًا ومهيمنًا من الناحية البصرية. هذا الارتفاع جعله مناسبًا تاريخيًا كموقع لمعبد أو مركز ديني مركزي.
سر جيولوجيا الأقصى
- المنطقة مبنية على طبقات من الحجر الجيري الصلب، الذي كان يُستخدم أيضًا كمادة بناء أساسية في المدينة القديمة.
- الصخرة الموجودة تحت قبة الصخرة تُعرف باسم “الصخرة المشرفة”، وهي تكوين طبيعي بارز من الحجر الجيري، ويُعتقد أنها كانت نقطة محورية في طقوس قديمة، ويُقال إنها الصخرة التي أراد إبراهيم عليه السلام أن يذبح عليها ابنه في الروايات الدينية.
الموقع الفلكي
لا توجد دراسات علمية حاسمة تُظهر أن للموقع خصائص فلكية خارقة أو نادرة كـ”مركز طاقة كونية” مثل ما يروج له البعض، ولكن:
- بعض الباحثين في الفلكيات القديمة (archaeoastronomy) اقترحوا أن معابد قديمة (بما فيها هيكل سليمان) قد بُنيت مع محاذاة معينة للشمس أو النجوم، كما هو الحال في كثير من المباني الدينية القديمة حول العالم (مثل الأهرامات أو ستونهنج).
- هناك نظريات تقول إن بعض الأبنية كانت تُبنى بحيث تستقبل شروق الشمس في مواعيد معينة (مثل الانقلاب الصيفي)، لكن هذه تبقى غير مثبتة تمامًا في حالة جبل الموريا.
المنطقة الزلزالية
- القدس تقع على فالق البحر الميت التحويلي (Dead Sea Transform Fault)، وهو صدع جيولوجي نشط نسبيًا. لذا، شهدت المدينة زلازل على مر التاريخ، وبعضها تسبب بأضرار للمسجد، وأدى إلى ترميمات متعددة.
المصادر الطبيعية حول المسجد الأقصى
- تقع عين سلوان على بُعد نسبي من الموقع، وهي من أقدم مصادر المياه الطبيعية في القدس، وكان لها أهمية كبيرة في حياة السكان الأوائل والمعبد القديم أيضًا.
نستخلص أنه من الناحية العلمية، لا يمكن القول إن موقع مسجد الأقصى يتمتع بميزات “خارقة” أو “كونية”، لكنه يتميز بـ:
- موقع استراتيجي مرتفع
- خصائص جيولوجية مميزة
- تاريخ زلزالي مهم
- ارتباطات محتملة بمحاذاة فلكية في العمارة القديمة
وهذا، إلى جانب مكانته الدينية العميقة، جعله مركزًا روحيًا ومحورًا للتاريخ عبر آلاف السنين.
من بنى المسجد الأقصى ومتى؟
المسجد الأقصى هو واحد من أقدس المساجد في الإسلام، ويقع في القدس داخل الحرم القدسي الشريف. يعود تاريخه إلى حقب مختلفة، لكن هناك روايات إسلامية وتاريخية تفسر تطوره عبر الزمن.
المسجد الأقصى في الرواية الإسلامية
- أول من بنى الأقصى هو النبي آدم عليه السلام، وفقًا للمصادر الإسلامية.
- جاء في حديث صحيح عن النبي محمد ﷺ أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد وُضع في الأرض بعد الكعبة، حيث قال:
“إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا… قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة.” (رواه البخاري ومسلم).
- أعاد النبي إبراهيم عليه السلام بناءه لاحقًا حسب الرواية الإسلامية، ثم قام النبي سليمان عليه السلام بتجديده وتوسيعه.
البناء الإسلامي
- بعد الفتح الإسلامي للقدس على يد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 15هـ / 636م، قام بتنظيف الموقع وأمر ببناء مسجد خشبي بسيط يتسع للمصلين.
- في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (حوالي 66هـ / 685م)، تم بناء قبة الصخرة، وهي المبنى الذهبي الشهير.
- في عهد ابنه الوليد بن عبد الملك (حوالي 91هـ / 709م)، تم بناء المسجد الأقصى بشكله الحالي بالحجارة والزخرفة الفاخرة.
التجديدات والترميمات عبر العصور
- تعرض المسجد لعدة زلازل وتدمير جزئي، وأعيد بناؤه وتجديده مرات عديدة، من بينها:
- العصر العباسي
- العصر الفاطمي
- العصر الأيوبي (صلاح الدين الأيوبي قام بتجديده بعد تحرير القدس عام 1187م).
- العصر العثماني (السلطان سليمان القانوني قام بترميمه).
موقع المسجد الأقصى وعلاقته بالهيكل اليهودي
- المسجد الأقصى يقع داخل الحرم القدسي الشريف، والذي يضم أيضًا قبة الصخرة.
- يعتقد اليهود أن الهيكل الأول والثاني كانا في نفس الموقع، ولهذا توجد محاولات من جماعات يهودية متطرفة لإعادة بناء “الهيكل الثالث” في المكان.
- لهذا السبب، يعتبر الأقصى قضية حساسة جدًا دينيًا وسياسيًا بين المسلمين واليهود.
إذن ماذا كان يوجد في موقع المسجد الأقصى قبل بنائه؟
كان موقع الحرم القدسي الشريف (الذي يضم اليوم المسجد الأقصى وقبة الصخرة) قبل بناء الأقصى في القدس، يُعتبر موقعًا مقدسًا، وله تاريخ طويل من الأنشطة الدينية.
الهيكل اليهودي (الهيكل الأول والثاني)
- كان الموقع الذي يقع فيه المسجد الأقصى يُعرف بجبل الهيكل وفقًا للتقاليد اليهودية، حيث كان يوجد الهيكل الأول الذي بناه النبي سليمان عليه السلام في القرن العاشر قبل الميلاد.
- بعد أن دمره البابليون في 586 ق.م، أعيد بناء الهيكل الثاني في 516 ق.م بعد العودة من السبي البابلي، ثم تم توسيعه في عهد الملك هيرودس الكبير في القرن الأول قبل الميلاد.
- الهيكل الثاني دُمّر في عام 70 ميلادي على يد الجيش الروماني بقيادة تيطس، ولم يتم إعادة بنائه منذ ذلك الحين.
موقع المسجد الأقصى في العصر الجاهلي
- بعد تدمير الهيكل الثاني، أصبح الموقع خاليًا من البناء الديني الكبير في بعض الفترات، لكنه كان موقعًا مقدسًا في الديانات المختلفة.
- في العصر الروماني، كان هناك بعض الهياكل والشوارع التي تم تشييدها حول الحرم القدسي، لكن لم يكن هناك معابد يهودية أو مسيحية على وجه الخصوص في تلك الفترة.
- من الملاحظ أن اليهود ظلوا يعتبرون هذا الموقع مقدسًا، حتى في ظل وجود السلطات الرومانية.
بناء المسجد الأقصى بعد ظهور الإسلام
- عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب القدس في عام 636م، قرر بناء الأقصى في نفس الموقع، بعدما نظف المكان من الأنقاض.
- في البداية، كانت الأرض مُخَصَّصة لتكون مكانًا للصلاة، لكن المسجد تم بناؤه لاحقًا بفضل جهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في أواخر القرن السابع، حيث تم بناء قبة الصخرة، وبالتوازي مع ذلك، توسع المسجد الأقصى ليأخذ شكله الذي نعرفه اليوم.
نستخلص:
- قبل بناء المسجد، كان الموقع يضم الهيكل اليهودي (الهيكل الأول والثاني) في فترات سابقة.
- بعد دمار الهيكل الثاني، كانت الأرض مكانًا مقدسًا، تم الاهتمام به من قبل اليهود والمسيحيين على حد سواء، وكان يعتبر من أكثر الأماكن قدسية في الديانات السماوية.
- ثم جاء بناء المسجد الأقصى في القرن السابع الميلادي ليحتفظ بنفس القدسية الدينية لهذا الموقع.
في الختام، سر المسجد الأقصى يتجلى في التداخل الكثيف بين الدين، التاريخ، الأسطورة، والسياسة. فهل نحن نقدّس المكان ذاته، أم القصة التي بُنيت حوله؟ وهل من فرق فعلاً؟
إنه ليس فقط رمزًا دينيًا، بل صار رمزًا للهوية، للمظلومية، للمقاومة، وحتى للذات الضائعة في متاهات الحداثة. نحن لا نحارب من أجل مسجد فقط، بل من أجل صورة نريد أن نصدق أنها ما تزال حقيقية: صورة العدل، الانتماء، والأمل رغم كل شيء.