يهوة… اسمٌ إذا نطقته ستكون قد ارتكبت واحدة من الكبائر الكبرى، بل من المحرمات النطقية في الدين اليهودي. يهوة هو اسمٌ مقدّس إلى حدّ الرهبة، محجوب عن الألسنة منذ آلاف السنين، اسمٌ يُقال إن نطقه الصحيح قد ضاع، وربما عن قصد، ليبقى سرًا بين السماوات والأرض.
رغم أن أحدًا اليوم لا يعرف كيف يُنطق، فإن هذا الاسم، يهوة (YHWH)، لا يزال يُحرّك التاريخ، وتُبنى الصراعات عليه، ويُسفك الدم تحت رايته، بدعوى إعادة الهيكل الثالث، حيث يعبدونه – كما يزعمون – “العبادة الحقيقية”!
لكن، من هو “يهوة”؟ وما الفرق بينه وبين اسم “ألوهيم” (Elohim)؟ ولماذا يحمل كل اسم هذا الكم من الدلالة اللاهوتية والفكرية؟

المعنى المكنون لـ”يهوة”
“يهوة” أو “يهوه” – ويُعرف في الترجمات الغربية بـ”Yahweh” – هو الاسم الأكثر قداسة في النصوص العبرية، ويُكتب في التوراة بالأحرف الأربعة: י־ה־ו־ה (Yod-Heh-Vav-Heh). أصل الكلمة مشتق من الجذر العبري “היה” (هَيَه)، والذي يعني “كان، يكون، سيكون”، ما يعطي الاسم معنى الوجود الأزلي والمستمر، أي أن “يهوة” ليس كائنًا فقط، بل هو الكينونة ذاتها.
وفي التراث اليهودي، لا يُنطق هذا الاسم أبدًا، ويُستبدل بألفاظ مثل “أدوناي” (سيدي) أو “ها-شِم” (الاسم)، لأن نطقه يعد جُرمًا قد يصل إلى استحضار الحضور الإلهي بطريقة لا يُسمح بها إلا للكهنة في قدس الأقداس.
“ألوهيم”: الجمع في المفرد
على النقيض من خصوصية “يهوة”، يأتي اسم “ألوهيم” (Elohim) في التوراة بشكل أكثر شيوعًا وكونية. يظهر في أولى آيات سفر التكوين:
“في البدء خلق ألوهيم السماوات والأرض.”
اللافت هنا أن “ألوهيم” بصيغة الجمع، لكنه يُعامل كاسم مفرد، وهذا التناقض الظاهري بين الجمع والمفرد فسّره بعض العلماء بأنه دلالة على عظمة الله وتعدد صفاته، أو على مجلس من الملائكة تحت القيادة الإلهية، بينما يرى آخرون أنه يعكس تطورًا في تصور الإله من التعدد إلى الوحدانية.
في التقاليد اليهودية، يُرتبط “ألوهيم” بالقوة، والسيطرة، والعدالة الإلهية، بينما يمثل “يهوة” الرحمة، والعهد، والارتباط الشخصي مع بني إسرائيل.
الخلفية التاريخية: تعددية اللاهوت داخل النصوص العبرية
بحسب الدراسات النقدية للنصوص المقدسة، ظهرت داخل التوراة مدارس لاهوتية متعددة: منها “الإلوهيمية” (التي تفضل اسم ألوهيم) و”اليهوهية” (التي تركز على يهوة). هذا يعني أن الاسم المستخدم يعكس توجهًا لاهوتيًا وفكريًا مختلفًا داخل التراث الديني اليهودي نفسه.
مع مرور الزمن، أصبح “يهوة” الاسم الخاص بإله بني إسرائيل، إله العهد والمواعيد، بينما بقي “ألوهيم” عنوانًا للإله بوصفه خالق كل البشر، خارج أي ارتباط قومي أو ديني.
يهوة والهيكل الثالث: الاسم في قلب النزاع
يرتبط اسم “يهوة” ارتباطًا وثيقًا بمشروع إعادة بناء الهيكل الثالث في أورشليم، وهو الحلم الذي يحرّك الجماعات الصهيونية الدينية المتطرفة، ويُعدّ من شروط قدوم “المسيح المنتظر” في الفكر اليهودي التقليدي.
وفقًا لهذا التصور، الهيكل الثالث سيكون مقامًا ليهوة، وحضوره سيحلّ في قدس الأقداس، تمامًا كما حدث – بحسب الإيمان اليهودي – في هيكل سليمان الأول ثم في الهيكل الثاني قبل تدميره على يد الرومان عام 70 م.
إن قدسية “يهوة”، وشروط عبادته، وأسرار اسمه، كلها تجعل من مشروع بناء الهيكل قضية لاهوتية خطيرة، تتجاوز مجرد البناء إلى صراع حول من يملك الحق في “اسم الله” وفي “حضوره“.
من الرمزية إلى الخطر: عندما يصبح الاسم مشروعًا سياسياً
ما يلفت الانتباه هو أن اسمًا لا يعرف أحد نطقه، أصبح اليوم ذريعة لتدمير، وتهجير، وبناء، وحروب دينية. في جوهر هذه المسألة، يتجلى الصراع حول من يملك الحق في تمثيل “الإله” – هل هو إله قومي لشعب معين؟ أم إله كوني للإنسانية كلها؟
في هذا السياق، يصبح التفريق بين “يهوة” و”ألوهيم” أكثر من مجرد تمييز لغوي، بل سؤالًا فلسفيًا عميقًا:
هل الإله هو من يحتكر العلاقة مع جماعة مختارة؟ أم هو الذي يفتح حضوره لكل من يبحث عن الحق، بلا هوية ولا حدود؟
بالختام الاسم الذي يهمس ولا يُنطق
في عالمٍ تُقاد فيه الشعوب بأسماء، وتُرفع فيه الرايات بأحرف، يبقى “يهوة” اسمًا غامضًا، سريًا، مرعبًا ومقدسًا في آنٍ واحد. وبينما يظل “ألوهيم” صدى لقدرة الله الكونية، فإن “يهوة” هو الاسم الذي لا يُقال، الاسم الذي يعني “الوجود ذاته”، والاسم الذي ما زال يُستخدم – إلى اليوم – وقودًا لأحلام الهيكل الثالث، ولمشاريع دينية لا تقل عن كونها سياسية… أو حتى خطيرة.