حين كانت الآلهة أنثى: قراءة في كتاب ‘يوم كان الرب أنثى’ لمارلين ستون

هل تخيلت يومًا أن الرب كان أنثى؟
قبل آلاف السنين، كانت الألوهية مؤنثة، وبالتالي المرأة محور الوجود الديني والاجتماعي.
في كتابها الجريء يوم كان الرب أنثى، تأخذنا الباحثة مارلين ستون في رحلة إلى زمن كانت فيه الربة هي الحاكمة، المحاربة، والمُقدسة. فكيف تغيّرت الصورة؟ ولماذا غابت الإلهة الأنثى من مشهد الألوهية؟

الرب أنثى

ما هو الدين الأمومي؟ وهل سبق الإله الذكر؟

الدين الأمومي هو منظومة إيمانية كانت سائدة في المجتمعات الزراعية القديمة، تقوم على عبادة إلهة أنثى تمثل الخصب، الحياة، والموت.
لم تكن المرأة مخلوقة من ضلع في مجتمعات الدين الأمومي، كانت الخالقة الأولى، والربة العليا، وكانت تُعبد كما يُعبد الله اليوم.

مميزات الدين الأمومي:

  • الربة أنثى: تمثل الأرض، الطبيعة، والخصب
  • المرأة مركز السلطة: اجتماعيًا واقتصاديًا وروحيًا
  • الجنس والولادة طقوس مقدسة
  • النسب يُحسب من جهة الأم

من الإلهة إلى الإله: متى بدأ الانقلاب الذكوري؟

مع الغزوات الهندوأوروبية، بدأت المجتمعات الذكورية تحل محل الحضارات الأمومية.
ظهرت آلهة الحرب، والجبروت، وصار الرب رجلًا، يأمر، ويعاقب، ويغزو.

مارلين ستون ترى أن هذا التحول لم يكن طبيعيًا بل مخططًا ثقافيًا وسياسيًا، بدأ بالسيطرة على اللغة والأساطير، وانتهى بتغيير شكل الرب نفسه.

نتفق جميعا على أن الإلهة ليس أنثى ولا ذكرا بشكل بديهي. لكن الصيغة وقوة اللغة على العقل البشري مهيمنة. وهذا ما أدى إلى تبجيل النوع الذي يحمل نفس جنس المعبود. وبما أن إلهنا في العصر الحالي بصيغة مذكر (الله، المسيح، يهوة، بوذا…) فسيظل الرجل هو الحاكم والجلاد، في حين المرأة المحكوم عليها والضحية.

فجنس المعبود يؤثر بشكل كبير على النظرة لكل من الجنسين المرأة والرجل. وإن كان في الدين الأنثوي قد بجلت الربة ودعيت بصيغة أنثى، وتمثلت بتماثيل نسائية فذلك عائد لدور المرأة الكبير في تطور النوع الإنساني والحضارة البشرية، فالكتابة والزراعة تطورتا بفضل جهود النساء. (الزراعة مثلا: فالنظرية المقبولة تقوم على أن النساء هن المسؤولات عن التطور الزراعي بما أنهن كن المسؤولات عن جني الثمار)

أساطير الربة: صورة مغايرة تمامًا للمرأة

عشتار هو الاسم أكثر شهرة للربة المعبودة. انتشرت عبادة الربة (تقديس الإلهة الأنثى) بأغلب المناطق في العالم القديم. في جوهرها لا تختلف الآن في شأن تقديس المسلمين لله. عشتار لديها مسميات كثيرة ولا تحصى كأسماء الله الحسنى، وكثيرة من آيات القرآن (أو الأحاديث القدسية تتشابه إلى حد كبير مع ما قالته الإلهة الأنثى عن نفسها والحالة الأصلية للربة أنها كانت إلهة فائقة.)

تستعرض الكاتبة عددًا من الِرَبات القدامى مثل:

  • عشتار (إينانا): في بابل وسومر، تمثل الحب والحرب
  • إيزيس: في مصر، أم الكون
  • نانا: ربة الخصوبة والنور

كانت المرأة في أساطير الأديان الأنثوية بطلة، قائدة، مقدسة، وليست تابعًا أو سببًا للخطيئة.
وهذا يختلف جذريًا عن صورة المرأة في الأديان الذكورية التي غالبًا ما شيطنتها.

من نسب الأم إلى نسب الأب: بداية الانحدار

أحد مفاتيح السيطرة على المرأة كان في التحكم في النسب أو حق الأم.
ففي الدين الأمومي، كانت الأم معروفة، وكان الأولاد يحملون اسمها ويَرِثون منها.
لكن في المجتمعات الأبوية:

  • أصبح نسب الطفل لأبيه
  • تم فرض العذرية والعفة على النساء
  • جُعلت حرية المرأة الجنسية “زنا”
  • أصبح الزواج “علاجًا للشهوة” لا علاقة مقدسة

الدين الأنثوي كان أكثر استيعابا لطبيعة الإنسان وعلاقته بالكون المحيط به. فلم يكن هناك وجود لأبناء غير شرعيين والتخبط الأسري الذي نشهده نحن على قرون طويلة. بالمجتمعات الأمومية، اعتبرت عملية الجنس والتكاثر كفكرة طبيعية وليس كالأديان الذكورية التي حرفت طبيعة هذه العملية وأدت إلى كثير من المظاهر غير الإنسانية السوداء من عدم قبول الأطفال غير الشرعيين إلى أقساها القتل باسم الشرف.

فالعداء الكبير من العبريين (اليهود الأوائل) لحرية النساء الجنسية كان سببها الأساسي أن العادات الجنسية، مثلت مظهرا من مظاهر العبادة الدينية في القدس مثلا.

“وفقط بالمعرفة المحددة للأبوة استطاع النظام الأبوي أن يبقى… ومحاولة إقامة هذه المعرفة المحددة للأبوة أدينت هذه العادات الجنسية القديمة باعتبارها آثمة فاسدة، ولهذا السبب ابتكر الكهنة اللاويون مفهوم الأخلاقية الجنسية: عذرية النساء قبل الزواج، الثقة الزوجية على النساء فقط -في حين لا يلزم الرجل بذلك- بكلمة أخرى السيطرة الكاملة على معرفة الأبوة

سرقة ثقافة المجتمعات الأمومية لصالح الهيمنة الذكورية:

استخدم مؤسسو الأديان الذكوري (الإغريق وغيرهم) ثقافات وتطور مجتمعات الدين الأنثوي لمصالحهم الخاصة وإن احتاج الأمر منهم قرونا عديدة. فالأساطير اليونانية من علوم و’حكمة’ هي بالحقيقة بداية تمكن الدين الذكوري على الحضارة الإنسانية.

وعلى سبيل المثال، اللغة التي كتب بها قانون حمورابي -الحضارة البابلية- الذي يعد أقدم قانون، هي لغة انبثقت من كتابات تطورت على أيادي أتباع الدين الأنثوي. وأيضا لا يعد أقدم قانون أو دستور، فالمجتمعات الأمومية كان لها قوانين وتشريعات. ولتحري الدقة، قانون حمورابي هو أشهر قانون من التاريخ القديم ولكنه ليس الوحيد أو الأفضل.

لابد من الإشارة أننا نجهل الكثير عن القوة وتقدم الشعوب والمجتمعات الأنثوية لقلة الأبحاث، وأيضا على تدهور قدراتنا الفهمية على مر السنين. لكن المؤكد أنهم كانوا شعوبا متطورة وأكثر قوة واستيعابا منا.

المرأة في الأديان التوحيدية: من الغواية إلى الصمت

تفضح مارلين ستون كيف رُسمت صورة المرأة في:

  • اليهودية: حواء هي الغاوية، وصوت المرأة معيب
  • المسيحية: عذرية مريم أصبحت المثال الوحيد “المقبول”
  • الإسلام: حواء لم تُذكر بالاسم في القرآن، والنساء يخضعن لسلطة الرجل في كل شيء تقريبًا

حتى المفاهيم المقدسة كالحب والجنس، أصبحت مرتبطة بالعيب والعار.
وتحوّلت “القادشتو”، الكاهنات المقدسات في سومر، إلى “بغايا” في نظرة التاريخ الذكوري.

استعارة رموز الإلهة لصالح الإله الذكر

مع صعوبة طمس كل مظاهر الدين الأنثوي، لجأت الأديان الذكورية إلى استعارة رموزه، مثل:

  • تصوير مريم كأم للإله (لا كربة)
  • استخدام طقوس الطبيعة لكن بصيغة ذكورية
  • تحويل “الأم الكبرى” إلى “الله الأب”

وبذلك تم الحفاظ على “سحر الأنوثة” ولكن خارج السلطة.

العنف باسم الرب الذكر: من مجازر التوراة إلى الحروب المقدسة

في تحوّل كبير، أصبح الدين أداة حرب.
نقرأ في التوراة عن إبادة شعوب كاملة بأمر الرب. وفي التاريخ الإسلامي والمسيحي عن غزوات مقدسة باسم “نشر الدين”.

لا يمكن لأحد إنكار الفرق الكبير بين: فالديانات الأنثوية تُقدّس الحياة، الأرض، والأمومة بينما الذكورية تبجّل القتل، السيطرة، والحروب.

هل يمكن استعادة صورة الرب الأنثى؟

لا تدعو مارلين ستون إلى عبادة الربة من جديد، بل إلى:

  • تحرير صورة المرأة من السرديات الدينية الذكورية
  • إعادة كتابة الأساطير التي ترفع من شأن الأنوثة
  • تحطيم الصور النمطية عن المرأة الغاوية، العاطفية، الضعيفة

“نحن لا نحتاج فقط إلى إصلاح القوانين، بل إلى إعادة صياغة الرموز التي تتحكم في وعي البشر” — مارلين ستون

استعادة الصوت المفقود

كتاب يوم كان الرب أنثى ليس فقط قراءة في الماضي، بل هو دعوة لفهم الحاضر.
فصورة الإله الذكر التي تسود اليوم ليست أبدية، ولا مقدسة بطبيعتها.
لقد وُجدت آلهة أنثى، وكانت المرأة في المركز، لا على الهامش. وربما حان الوقت لنُعيد التفكير في كل ما اعتبرناه “طبيعيًا” أو “إلهيًا”.