في قلب الصحراء القديمة، حيث كتب الإنسان أول سطر على الطين، لم تكن البداية قانونًا ولا جيشًا، بل كانت أنوثة تتفجر بالحياة والموت. كانت عشتار، أو كما سماها السومريون إينانا، ليست مجرد إلهة تُعبد، بل الوعي الأول الذي خطّ معناه في الوجود. لقد اختزلت في ذاتها تجربة الإنسان الأولى مع الرغبة، السلطة، الفقد، والبعث. ومن خلالها، ولدت الحضارة لا كحالة مادية، بل كاحتياج رمزي لفهم الذات.

عشتار ليست أنثى… بل الإنسان
من السهل اختزال عشتار كرمز للأنوثة، كما فعل الكثير من المؤرخين. ولكن لنتأمل في أساطيرها فسيظهر لنا أنها تمثل الكلّ الإنساني:
- هي عاشقة تبحث عن اكتمالها.
- هي محاربة تصرخ في وجه الخوف.
- هي الكاهنة التي تقود الطقس.
- هي الميتة والعائدة من القبر.
تواجه ما نواجهه جميعًا: الحب والخيانة، السقوط والعودة، الجسد والروح. لذلك، فإن عشتار ليست “هي”، بل “نحن” في صورتنا الأولى، الخام، النقية من الفرضيات الأخلاقية المتأخرة.
أسطورة النزول إلى العالم السفلي: درس في الوعي
حين نزلت عشتار إلى العالم السفلي، عبرت سبعة أبواب، وخلعت عند كل باب قطعة من زينتها، حتى وصلت عارية إلى عرش الموت. هذه القصة ليست فقط عن الموت والبعث، بل عن تفكيك الأنا. إنسان ما قبل الفلسفة عرف أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب التجرد، وأن القوة لا تُستعاد إلا بعد المرور عبر الضعف.
في هذه الرحلة، تختبر عشتار الموت الرمزي وتعود، لتبدأ دورة جديدة من الخصوبة والمعرفة. إنها دورة الحضارة نفسها: ولادة، أزمة، تجاوز.
من الطقوس إلى النظام
الطقوس التي أُقيمت لعشتار، كـ “الزواج المقدس”، لم تكن شعائر دينية فقط، بل كانت أول أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي:
- الكاهنة تتزوج الحاكم الذي تعينه باسم عشتار، ليضمن الخصوبة والنظام.
- العلاقة بين الإنسان والإلهة تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع.
- إنها اللحظة التي تحوّل فيها الرمز إلى مؤسسة.
بهذا المعنى، ولدت المدينة من الرمز، لا من القانون. وكانت روح المدينة الأولى.
الحضارة كقصة حب وصراع
في يومنا هذا، نبني الحضارة بالسيطرة والهيمنة، إلا أن عشتار قدّمت نموذجًا آخر:أسست حضارة الإنسان والبحث والتجاوز، لا من القمع. حضارة تعترف بالجسد، بالعاطفة، بالدموع، بالموت، بالأمل. حضارة الإنسان بكل ضعفه وقوته.
قبل أن نرسم صورة الذكر المتعالي، أن نتخيل قصصا عن أنبياء مجدوا القتل والحرب باسمه، قبل أن نسن مجموعة من القوانين تحاصر الضعفاء وتحن على الأقوياء، كانت عشتار. كانت النار الأولى، الكلمة الأولى، الرغبة الأولى. لم تكن كاملة، لكنها كانت صادقة. وفيها رأينا أنفسنا لأول مرة. لقد بنى النظام الأبوي الحضارة على جسدها، على صراخها، على صمتها.
عشتار ليست ذكرى… بل أصل.