قيامة عشتار الفصل الأول: المقطع السادس

[«الفصل الأول: المقطع الخامس_ قيامة عشتار»]

(**من وجهة نظر زهراء نيسان)

كفر توما، غرب شمال حلبا 15 أيار II021

أطلق سلام صوت المذياع عاليا، يصدح بأغنية مصراوية ذات إيقاع سريع وتعالت ضربات الطبلة وسط صخب السوق، فقد كان يقع بمنطقة تابعة للمعارضة المعتدلة والموسيقى، أو كما يسميها الجهاديون المعازف، مسموحة. انتشرت عربات بيع الخضر والفواكه، وافترش بعضهم لسلعهم حصيرة بالية ومن بينها يحاول الزبائن والدراجات النارية خرق مسار لهم.

أشعل سلام سيجارته ورأسه يرقص على أنغام الأغنية بينما كان أبو جابر يعد ببطء كل قطعة في الصندوق، يتحقق من الحمولة التي أوصلها إليه. فتوقفت سيارة على ما تبقى من هامش الرصيف المليء بالنفايات كبقايا الخضروات وعلب كرتونية وأطلق صاحبها الزمور ليثير انتباه سلام، فأقفل المذياع وهب نحوه.

ألقى مياس التحية بحرارة بوجه بشوش تزينه لحية خفيفة مشذبة، كان الرجل ممتلئ الجسم يعمل مدير مكتب لمنظمة خيرية، وعرض عليه عملا لصالح المنظمة فرد سلام: «من أجل مصاري نظيفة وحلال، لا أقول لا أبدا. لكن ما الذي أتى بكم إلى هنا؟»

ـــ «كنا ذاهبين لجرد وترتيب معونات في المخزن وبعدها نتجه إلى المكتب»

ـــ «الله حيي أصلك أخي، لييك، أنتم الأبطال الحقيقيين، أفي حاجة لمساعدة بالمخزن؟»

ـــ «ما في داعي، معي الشباب راح يساعدوني» وأشار إلى الشابين اللذين إلى جانبه؛ سامي، الأشقر الطويل والذي يمسك بحاسوب محمول ويضع سماعات في أذنيه. أما الثاني، فقد كان تيم صاحب الشعر الطويل المجعد كأجمة أحراش، فألقى التحية بابتسامة ساذجة لمعرفته السابقة به، وعاد يلاعب هاتفه المسطح بأصابعه وتبين له أنهما من أبناء الألفية الجديدة المهووسين بالتكنولوجيا، فقال سلام متهكما: «إذا كان هيك، الله يكون في عونك» وأضاف: «فلنجتمع غدا على كأس شاي»

تحسر مياس قائلا: «لو كان بيدي، بيد أن عندي شغل لفوق راسي، فأنا مسؤول على مشروع افتتاح متجر هنا»

فاستغرب سلام قائلا: «منظمة خيرية تفتتح متجرا؟»

ضحك مياس وأجاب: «بيت البركة لن يكون متجرا عاديا، إنه السلع مقابل الكوبونات. كيف أشرحها… يسلم لكل أسرة محتاجة كوبونات بعدد من النقاط على حسب احتياجاتهم كل شهر، فكل ما زادت الاحتياجات وقلة الدخل ازداد عدد النقاط. أما السلع فهي مسعرة بالنقاط وهكذا تتاح للمستفيد اختيار ما يحتاجه وهذا أفضل من تسليمه سلة معونات قد لا يستفيد من نصفها أو مساعدات تأتي بشكل مفروض»

ـــ «والله فكرة حلوة هاي، وكيف ستحسبون هذه النقاط؟»

ـــ «نقوم بعملية إحصاء وهاذين الشابين، ما شاء الله عليهما، قاما بتطوير برنامج يساعدنا ومكلفين بموقع المنظمة أيضا»

فتدخل تيم بحماس: «أنا اشتغلت على المحتوى وسامي تولى عملية التطوير» واسترسل في ثرثرته فهز سلام رأسه مدعيا الفهم، ومن دون سابق إنذار، ارتفع دوي انفجار هز أركان السوق.

أخفض الجميع رأسه واختبئوا خلف أي شيء يجدونه يصرخون وعلت التكبيرات في الجو، فأحدهم فجر سيارة مفخخة وسط السوق الشعبي…

بعد مدة وجيزة، انتشر العسكر في كل ناحية وصفارات الإنقاذ المدني التي تدوي بصخب. طُوقت البقعة المحترقة التي خلّفها الانفجار وقد أصاب محل خضروات كان قرب السيارة المفخخة. وقف أبو جابر ممسكا برأسه من هول ما يرى وتحوقل وبسمل أما سلام أشعل سيجارة يمتص بها حرقته على هذا البلد الضائع، فمر تيم من أمامه رافعا هاتفه لتصوير المشهد ليضعه على صفحته الفيسبوكية، فدنا من هيكل السيارة الذي لا يزال مشتعلا لكن ما إن رأى جريحا احترقت رجله من الفخذ إلى الساق وقد تآكل ما فيها من لحم حتى تأوه واصفر وجهه فصاح به سلام لاعنا: «تعال إلى هنا أيها الغر»

اجتمع المتفرجون عديمي الفائدة حول محيط الانفجار وهب المسعفون إلى نقل الجرحى، ساعدهم بعض الشباب من بينهم مياس.

سأل أبو جابر: «كم وصل عدد الضحايا؟»

أجاب الشاب الأشقر وقد وضع يده في جيبه مكتفيا بالمراقبة: «ضحيتان، امرأة وطفلها»

فرقعت شعلة فابتعد المتجمهرون نحو الخلف وأيضا المتطوعون حتى لا يخاطروا بحياتهم، لكن شابا آخر اندفع يحاول أن يصور عن قرب ليبثه على ما يسمونه اللايف ودفع سلام جانبا فزاد من حنقه واصطدم أحد آخر به من الخلف فأطلق سبة إلا أنه لجم لسانه، فقد وقفت إلى جانبه صبية، تهيأ له أن رآها في مكان ما قبل الآن، ارتدت ملابس رجالية واسعة بشعر أسود متموج يلوح في الهواء إلا أن خضرة عينيها ذكرته بمن هي، كانت المسافرة التي دفعت أجرة الركوب من دون أن تستقل الميكروباص.

علق أبو جابر وهو ينظر للمحل المحترق: «هل هؤلاء الناس لا يتعبون أبدا، تفجير كل يوم؟» وضم مياس ذراعيه مطلقا تنهيدة مملوءة بالحسرة أما سلام فأخذ نفسا طويلا من السيجارة، فجيلهما من أشعل الثورة ولم يعرف كيف يخمد الحرب التي ورطه العالم فيها. 

اقترب رجل قصير القامة وقد وقف بينهم ليشاهد عن قرب ما يحصل ثم قال: «هؤلاء الدواشع أولاد الكلاب يحرقون الأخضر واليابس»

فسأل تيم سامي الذي بجانبه وقد كان صوته مسموعا: «أمتأكدون من أن داشع من نفذت العملية؟» كان سؤالا لا طعم له ولا معنى،

أجابه أبو جابر: «انظر يا بني، أيا كان، الله يلعن الذي كان السبب، داشع والضبع والأمريكان والروش وكلهم سواء» وأكمل بنبرة أشبه بالصراخ: «ضجرنا رائحة الدخان والدم في أنوفنا!»

قال سلام مواسيا: «الله كبير يا أبا جابر، سيفرجها عما قريب»

تدخل الرجل القصير الذي صرخ متحمسا وكأنه يشاهد مباراة كرة قدم: «أراهن بكل ما لدي أن جماعة الأنصار من داشع وراء هذا، لابد أنهم يريدون الرد بعدما تم القبض على قائدهم المدعو أبي يزيد ومرافقيه»

أشعل سلام سيجارة ثانية نافثا دخانها نحو السحب الكثيفة السوداء التي تلف الخردة المشتعلة ووضعها بين شفتيه وهو يتكلم: «إيييه أكيد، سأراهن بمليون ليرة على أنهم أصحاب أبي يزيد، فهذا الرجل أشرس من بن لاذن وأبي بكر البغذاذي مجتمعين. لو أعدموه فور قبضهم عليه لأراحوا العالم من أمثاله، فهذا النوع من البشر يستحقون أن يعدموا ولا تأخذك بهم رحمة»

ـــ «وماذا تعرفونه أنتم عن أبي يزيد؟»

فحل الصمت بين الرجال السبعة والتفوا نحو الصبية ذي العيون الخضر وأكملت والغضب يعتمل في صوتها: «كل ما أسمعه هم فعلوا، أولئك قَتلوا أو قُتلوا، لماذا لم يوقفهم أحد؟ لما ظل الضبع يحكمكم طيلة أربعين عاما، لماذا خرس الناس طوال هذا الوقت؟ وحين نهضوا تشتتوا كالجرذان، يعيشون في الذل والمهانة وأصبحوا حديث العالم ضعفاء خاملين» ثم نظرت إليهم: «أنتم أيها الكبار من جعلنا ما نحن عليه الآن، صمتكم وخمولكم والاكتفاء بالقليل دائما، ربما الدواشع مريعون لكن على الأقل جعلوا العالم يتزعزع تحت أقدام…» فبترت جملتها حين لاحظت عيون من حولها وهم يحدقون فيها بذهول.

أطلق سلام نخيرا ساخرا ثم رد وهو يلاعب السيجارة بين يديه: «وماذا كان يفعل أبو يزيد؟ هل كان ينقذ الناس ببندقيته وتكبيره؟» خرست الفتاة وقد وجدت نفسها قد تفوهت بالكثير وتصاعدت الهمهمات والاتهامات الصامتة نحوها، فلن يقف في الصف الدواشع إلا واحد منهم، المسكينة متوهمة.

فجأة صرخ الرجل القصير بنبرة صوته العالية وهتف: «انظروا لا يزال أناس عالقين بالمحل» وتعلقت العيون صوب المبنى المحترق.

اقترب سلام من الصبية وقد طغت رائحة سجائره على رائحة الرماد الكريهة قائلا: «أرأيت ماذا يصنع أمثال أبي يزيد يا فتاة؟ إن أمثاله لا يميزون بين الصغير والكبير، بين النساء والرجال، فبالنسبة له الجميع كفار وهو من أهل الجنة» ونفث الدخان في وجهها متعمدا

ردت وقد سمع صوت اصطكاك أسنانها: «العم أبو يزيد لن يفعل شيئا كهذا، إنه لا يقتل الأطفال والنساء»

أطلق ضحكة مجلجلة من سخافة كلامها وأجابها بسخرية: «وماذا يفعل؟ آه نعم يعاشر النساء والأطفال على السواء»

 لم يستوعب ما جرى ففي غمضة عين باغتته بلكمة ارتمى بفعل قوتها إلى حضن أبي جابر.

أمسك سلام بأنفه المهشم متأوها من شدة الألم والدم ينزف بكثافة وسارع إلى لملمة رجولته التي تدلقت على الأرض وكاد أن يهاجمها فأمسك به مياس وأبو جابر فصاح في وجهها: «يا بنت القحبة… لو لم تكوني امرأة للقنتك درسا»

ردت صائحة: «فلتحاول يا ابن الكلب» فانفلت من قبضة الرجلين ليشدها من طرف عنقها لكنها حدجته بنظرة متحدية إياه، لم ير يوما مثل هاتين العينين، كانت كعيني وحش مفترس سينقض عليه في أية لحظة. شده مياس إلى الخلف وقال: «استهدي بالله أخي سلام، وأنت يا بنت الناس حِلِّي عنا»

*******

[«الفصل الأول: المقطع السابع_قيامة عشتار»]