هولوكوست عشتار

مقدمة

أهلا صديقتي، أهلا صديقي.. كم أحبك.. إني حقا أحب البشر، أحبكم جميعا. من أنا؟ الجواب صعب، فحسب فهمك أيها البشري المخدوع، فأنا جني، عفريت أو ربما شيطان، بالتأكيد لست ملاكا، هيهيهيه، عذرا لا أستطيع منع نفسي من الضحك… كلما قطعت شرق البحر الوسطي أستمتع بحلاوة التناقضات المُرّة في مسرحيات أبطالها بشريون مثلك.

بالمناسبة، ليس هناك خطأ مطبعي إنه البحر الوسطي.

في هذا العالم، ستكون المسميات مختلفة، الأماكن، بعض الشخصيات، بعض الأحداث التاريخية… تحفظا على مشاعرك، وأي تشابه بين الواقع والخيال هو محض الصدفة ولست مسؤولا عنها، هيهيهيه…

أيها الذي سيرتحل معي في ألف حكاية وحكاية، ستجتمع لتحكي قصة العالم من بدايته إلى نهايته.. أجل، كما حزرت إنها قصة طويلة جدا، لا تقلق… لأنك لن تندم على اكتشاف حثياتها، ربما ستندم ولكنها ستحفز عقلك المخدر وقلبك المبلد، هيهيهيه، اعذرني، إن ما يحدث أمامي الآن مثير للاهتمام.

بأرجاء الشارع تحت أضواء المصابيح الخافتة الرثة، تدوي صرخات فتاة، صرخات رقيقة متوجعة تصدح بالرعب والضعف… ها هي تجري بباحة سيارات من أرضية من الإسفلت تحيطها بنايات متفاوتة الطول بلون الاسمنت أو الأصفر الشاحب، توارت تفاصيلها القبيحة تحت ستار أول الليل.

البنت تصرخ متوسلة تجري هاربة من أبيها وأخوتها، تستنجد بالجيران والمارين على طول الشارع شبه الخالي رغم أن البيوت ليست خالية، ها أنا أرى بعض الفضوليين مثلي يلقون نظرة من خلف نوافذهم… لا يستطيعون التدخل فهذا ‘شأن عائلي’. اعتادوا صرخاتها، وفي كل مرة يثرثرون؛ ‘لابد أنها فعلت شيئا’، ‘إنها ابنته وهو حر في تربيتها’، ‘بل كيف استطاعت الفتاة أن تذهب إلى السلطات وتشكو أهلها بإنهم يعنفونها، فهذا يظل أباها وهؤلاء إخوتها’، ‘كيف خولت لها نفسها ذلك’. الفتاة تجري، تستغيث، تهرول والدم يسيل من جسدها المبرقع بالضربات، باللكمات، بالركلات، ووالدها يحمل السكين محاولا نحرها هذه المرة، إنها تفر في رجاء يائس من أجل حياتها، لكن هيهات…

لحق بها الأب.

وعند طرف الباحة حمل القرميدة بيد واحدة، لم يتردد، إنها ابنته، أليس كذلك؟ أوه عليه أن يحمي شرفه، أتتفق معي؟ لا يهم ما صنعت، فلابد أنها صنعت شيئا قبيحا.. مشيان.. ها هو الأب يمسك بالابنة، يسقطها أرضا، رقد على بطنها وأخذ يهشم رأسها بالقرميدة، وعيناها صوب عينيه، ضربة ثم أخرى تلو أخرى، يطحن ويدق…

ماتت البشرية وتناثر دمها على حافة الطريق. أعيد: هناك بشر مثلها يراقبون المشهد من الشبابيك لم يستطيعوا التدخل، شهدوا فعله، فهذا مشهد ليس بجديد عليهم.

بعد دقائق، جلس الأب على كرسي أحضره، قرب جثة ابنته وبيده كأس شاي مرتاحا أخيرا…

سأضع القناع الآن، لا أستطيع المكوث طويلا، فقد امتلأ المكان بالمتفرجين ورجال الشرطة الذي يسحبون الأب وقد اعتلت وجهه نشوة نصر وفخر، والأخوة كذلك، إنهم فخورين بإنجازهم العظيم.

الشوارع أمامي تبدو كئيبة، لازلت أذكر زمنا كانت الأرض هنا أشبه بجنة ذهبية، لكن البشر لا يتذكرون… جوردن كغيرها من البلدان التي تجاورها: بلستينا، لابنون، سورمادا، العراقة وعزيزتي مصارا… (وأي تشابه في الأسماء فهو محض صدفة، فهذا عالم مختلف تماما، هيهيهيه) هذه البلدان من البقاع التي أحب التجوال فيها، أحب الطاقات التي تنسل من كل زاوية منها، إنها تشعرني بأنني.. بشري.. هيهيهيه…

مضى رجل سكران من جانبي، ها هو يتوقف يحملق في، مستغربا من القناع النحاسي الذي أرتديه ومن أزيائي المبهرجة الواسعة… لا بأس ببعض النشوة، أليس كذلك أيها القارئ؟ فهذا الرجل سكران ولن يتذكر شيئا ولن أخالف القواعد… على كل إنها قواعد سخيفة، لا أحد يأبه بها.

هبت ريح موجت ثيابي الحريرية لتفضح عن أذرعي البيضاء الثمانية، إنها خيوط من نور، أو تيارات من الطاقة، أو أذرع أخطبوطية لامعة… كل بشري سيفسرها على قدر محدودية عقله. كم أحب اللعب مع أبناء البشر، منهم العاقلون وأكثرهم.. كهذا، رمش السكران بعينيه ببطء وفمه نصف مفتوح، إنه يحسب أنه يحلم.

التوت أذرعي الطاقية على الرجل، جسد بشري بطاقة روحية ضعيفة غير قادرة على مقاومتي. سحبته إلي ممتصا منه طاقة الأرض المهدورة على مخلوق رخيص مثله. إلا أن أذرعا سوداء نزعته مني واضعة إياه على الأرض مغشيا عليه.

ابتسمت فقد كانت هذه ‘زميلتي’، بهيئتها البشرية؛ امرأة سمينة قصيرة القامة ترتدي ملابس أهل الريف. زأرت: “ماذا تصنع يا أبيض؟”

أعدت أذرعي الأخطبوطية إلى بشريتين بيضاوين، إنها من بعد السود وأنا من البيض، إنها ليست عنصرية، فبكل بساطة نحن من بعدين متوازيين. أطلقت ضحكة ساخرة: “لماذا أنتم هكذا يا قوم السود؟ متزمتون كثيرا، هذه أرض مباحة” فردت يدي لأشير لكل بلاد سوريانا المليئة بالطاقات السلبية المتواترة: “من واجبنا أن ننقي الأجواء” أوه، تبا… كم هذا مؤلم، فقد لمستني على حين غرة فاصطدمت هيئتي البشرية الضعيفة إلى الجدار بعنف. التمعت مقلتا عينيها السوداوين وصدحت: “إننا أقوام نتقصى، لا نأخذ ولا نعطي، وأنت.. إننا ندري بأفعالك يا أبيض”

عضضت على شفتي، لن أدعها تحرمني من لعبتي الممتعة، قلت: “مادام السماويون يلعبون فسألعب أنا أيضا، ما رأيك أن نلعب معا؟” فما كادت أن تضربني ثانية حتى طرت قائلا: “الحقي بي إذا شئت”

هجت أوراق الأشجار عندما سرت في السماء كومة من طاقة بيضاء كالشهب وكومة من فراغ طاقي تليها، وخرقت جدار المنزل كما تخرق أشعة الشمس الزجاج. اكتفت المخلوقة السوداء بالتموج ظلا خافتا على سقف وجدران حجرة النوم بينما أنا تكونت على هيئتي البشرية. وقفت عند قدمي كنعان بن خضرة الذي استيقظ من نومه فور شعوره بنا، قلت مازحا: “هل أيقظتك أيها العجوز؟”

نهض كنعان متثاقلا وتمتم أدعية كيلا يمتص أي منا شيئا من طاقته، فدمدمت السوداء شاعرة بالإهانة: “لا تتعب نفسك يا بن خضرة، فلا مخلوق يشتهي روحك الملعونة إلا من ألعن منك” أجبتها متنهدا من قلة فهمها: “أعي أنك تقصدينني يا صاحبتي، لكن كنعان لا يحمي طاقته بل يحمينا” وقلت للعجوز: “اعذره فقد خلق بالاعتدال الثاني”

رد العجوز: “هذا يعني أن عمرك شارف على الانتهاء” ابتسمت بوهن: “شارف المحور على تغيير دورانه من جديد، وستنتهي 25772 سنة” ثم رفعت يدي المضيئتان كإشارة على لامبالاتي، فلا يهم، رأيت ما يكفيني.. قال كنعان رافعا سبابته: “إنه أوج عصر الشياطين ونهايته، فهل ستشهدها معي؟” “ما أغرب إيمانك، فالسماويون وحلفاءهم اليوم أقوى من أي وقت مضى” السماويون.. أدعو من أجلك أيها البشري ألا تصادفهم يوما في حياتك القصيرة.. وربما أحيانا يزورنك في أحلامك.

تمتمت المخلوقة السوداء: “السماويون وغيرهم يتسابقون… الجميع يريدونها… قوة البوابات الثمانية” رسمت ابتسامة ساخرة: “كيف سيكشفونها؟ إنهم يبحثون عن الهيكل بجوف الأرض، على الأرض هيهيهيه.. وهل تعتقد أن حفنة من البشريين من أبناء الحثيين قادرين على إعادة دمج البوابات، أهذا ظنك؟ هيهات، هيهات يا بن خضرة.. لن يكون لهم”

هسهست السوداء: “أولست أنت من مددت بشريا بسر طاقة تخرق الأبعاد؟ فكيف لا تؤمن؟” وتصاعد حسيس ظلها الأسود في غضب، فهززت كتفي: “لم أفعل شيئا” ولأصارحكم، كل بضعة سنين، أمزح مع بشري فضولي، ألاعبه ثم أنفث له لغزا.. قليلون من يمحصون اللغز، إنهم المهووسين، الضائعين، الحانقين… مثل كاتب هذه القصة، إنه مجنون حانق على العالم، على البشر، على الأديان… على كل شيء… لذلك أنصحك ألا تقرأ له هيهيهيه… سيفضح بعض أفعالي المشينة إن واصلت القراءة ولكن تذكر أن نواي كانت صافية دائما هيهيهيه… ولا تقلق البوابات لن تفتح معا، فلا أحد قادر على ذلك…

“ليس هم” قال العجوز وأنهى وقت اللعب..

أغمض عينيه التي أخفتهما حواجبه البيضاء الكثيفة: “قريبا، ستُفتح البوابات، ستُفتح كما أغلقت” باغتني الصمت من نبوءته المنحوسة، الجميع يعتقد أن نهاية العالم سريعة خاطفة، خاطفة الأبصار والأنفاس. لكنها بالحقيقة أبطأ مما تتصور، إنها كعملية سلخ جلد الرأس، مؤلمة إلى حد فظيع، مرعبة إلى الموت، وبطيئة تجعلك تشعر بكل همسة يأس وبؤس… 

أردف بحنجرته المتحشرجة: “لقد شهدتم، أيها السود والبيض على قدومه، لقد رأيتم ظله وشممتم طاقاته…” تكونت السوداء من صلب الجدار الأبيض على هيئة تمثال زجاجي أسود يعكس أضواء الليل الخافتة وهتملت: “لقد رأيناه، إنه قادم، إنه هو…”

تشوشت هيئتي البشرية كصورة تلفاز قديم ثم تماسكت، رسمتُ ابتسامتي اللعوب: “لا أحد قادر على التحكم بهيكل الأكوان يا ابن خضرة، لا أحد” رفع عينه الحولاء نحوي: “إنه قادم لا محالة.” أكدت له: “لا بل السلالة الملعونة اختفت” أدار وجهه وهمس: “سلالة عشتار لم تختفي يوما…”

رسم ظل السوداء ابتسامة مريبة قائلة: “لطالما تجلت رحمة الآلهة في نواميسها التي لا ترحم”

وأخذت ترتل بلعنات السماويين:

‘عندما يتدلى لسان ساكن

يتحلى الجوع بدم ساخن

أفعى بجلد الحوت

وثعبان من معدن ذائب

المعدن ثروة والبحر خائن

آه اسقني من دمها وأسناني ستهرشن لحمها وحوافري ستطحن عظامها

لا، روحها شيطان مارد، بلعني وبطني ملآى بدمها وبلحمها وبعظامها

خلصوني من سلالتها

خطيئة هي، زلة الإله الوحيدة’

روابط فصول هولوكوست عشتار

  • الفصل الأول
  • الفصل الثاني
  • الفصل الثالث
  • الفصل الرابع
  • الفصل الخامس
  • الفصل السادس
  • الفصل السابع
  • الفصل العاشر
  • الفصل الحادي عشر
  • الفصل الثاني عشر