هولوكوست عشتار: الفصل 2

هولوكوست عشتار

زهراء

كفر توما، غرب شمال حلبا أيار II021

تناثرت الخيم على أطراف أرض زراعية لأسر نازحة من الجنوب، بعضهم لم يجد سوى أشجار الزيتون ليتخذها بيتا تزاحمهم حاجياتهم أو ما استطاعوا الهرب به من القصف والحصار. من بعيد، يجري الأطفال بين المساحات الفارغة يملؤون وقتهم باللعب بما وفر لهم خيالهم، وامتد حبل علقت عليه بعض الملابس تعلم القادم بأن المكان مدينة مصغرة بأقل ما توفر من الضروريات، فحتى الماء تمثل في خزان أبيض ضخم فارغ، ثبت فوق أعمدة حديدية وسط المخيم كتمثال بوذا، يلقي عليه المارة نظرة استغاثة ورجاء. أقامته الحكومة المؤقتة ولكن نادرا ما يتم ملؤه فيضطر الناس إلى السير كيلومترات بحثا عن الماء الصالح للشرب. هنالك الحرب لكن قبلها كانت المنطقة تعاني شحا من المياه وجفافا طوال سنوات فتفاقم الوضع سوء مرات مضاعفة.

تتبعت زهراء بعينيها من خلف قماش الشال الأسود هدفها، الذي كان امرأة تتحدث مع بعض النازحين وقد التفوا حولها كأنها الملاك الذي سيخلصهم. تدلت من أذنها حلقة واحدة طويلة، معدنها فضي اللون وتزينت ببلورة زرقاء مخططة. ظهر شكل جمجمتها بتسريحة شعر رجالية فلم يبقى سوى بعض الشعر على غرتها الجانبية وتعر جبينها الطويل تماما. تبدو غريبة عمن حولها بمظهرها ذاك. كانت امرأة نحيلة وعلى وجهها الضارب إلى الصفرة تجاعيد خفيفة تدل على أنها تجاوزت الأربعين من العمر.

عثرت الصبية على مقالات عنها تملأ صفحات الانترنت ومقاطع فيديو وهي تردد شعارات الحرية بين المتظاهرين في السنوات الأولى من الثورة. تدعى فدوى الرفاعي، ناشطة في العمل الإنساني، استمدت شعبيتها من صفتها أيقونة الثورة فهي المرأة النُّصيرية التي تحدت عائلتها وطائفتها لتقف بصف أولاد السنة وقادت عديدا من المظاهرات ضد النظام بمدينة ناريا الجنوبية. وفي أواخر العام الثاني من الثورة فرت إلى فرنشا، قيل من أجل العلاج وقيل أيضا أنها ككثير من مثقفي البلاد الهاربين، وآخرون يرددون أنها مجرد واحدة من المعارضة التي تباع وتشترى في المحافل الخليجية.

كان إلى جانب الناشطة شاب يعمل تحت إمرتها وعلى بعد أمتار قليلة ينتشر عناصر من جيش التحرير، فعلى وقع عملية البارحة ارتفع عدد نقاط التفتيش لتشمل كل زاوية من المدينة وتضاعفت درجة تأهب مقاتليه. تظاهرت الصبية على أنها زهراء، واحدة من النازحات ودنت من الهدف بحذر كما تطلبت المهمة.

احتجت امرأة منهن موجهة الحديث إلى فدوى: «الناس هنا لا يكفيهم بضع مساعدات، بل نحن في حاجة ماسة إلى سقف يأوينا وأن نعود لموطننا… أعيدونا إلى بيوتنا وسنعيد بناءها، سنزرع الأرض ونطعم أنفسنا بأنفسنا بل وسنطعم الآخرين أيضا» 

واستها فدوى ببضع كلمات، وهدأت بصوتها الرخيم من لوعة الأم، فقد شكت بأن لها ثلاث بنات يعشن في خيمة من دون معيل. كانت الناشطة تنصت لشكوى كل واحد من النازحين الذين قدموا إليها. كانت نظرتها شديدة الوداعة، شديدة التعمق، ترخي من دفاع محدِّثها فيطلق العنان لقلبه كالرجل الذي قال في يأس: «ندعو الله أن ينهي هذه المعارك وتعود الشوارع لسابق عهدها. هذا رجاؤنا، كل ما يريده الواحد منا أن يقدر على شراء رغيف خبز ومن دون قذائف تحوم على رأسه» والتمعت في عينه دمعة رفض أن يطلق سراحها.

طوال فترة مراقبة زهراء لها، لم تكن فدوى تبقى لوحدها أبدا إضافة إلى المقاتلين المسلحين الذي يسرحون كما يشاؤون على الطرقات وفي الشوارع، بأزيائهم الرخامية التي خط عليها “جيش التحرير الوطني”. تمركزت سياراتهم العسكرية عند مداخل المخيم، وبالرغم من ذلك لم يأبه لهم أحد، فرؤيتهم صارت من الأمور الاعتيادية فبعض الناس يجدونهم أمام عتبة منازلهم أو خيمهم وأحيانا في غرفة معيشتهم.

تحاشت الصبية المرور بمحاذاتهم وتراجعت إلى الوراء، كانت تمشي كما كانت تفعل الأم زهراء، بوقفة مستقيمة لكن لا ترفع رأسها عن الأرض وتحاول التحدث مثلها. كانت الخطة تستلزم تتبع الهدف أولا والكشف عما يخطط له كما نصّت أوامر الأمير، كانت تقوم بذلك مرغمة. لكن إن كان رأس هذه المرأة سينقذ العم أبا يزيد فلا تبالي بما سيحصل لها. قتلها سيكون أسهل بكثير، وتنهدت ثم رمت في فمها حبات من الشوكولا، كانت ذائبة فاتسخت أصابعها. مسحتها على جانبي عباءتها ثم تذكرت أن الأم زهراء لن تتصرف هكذا.

كان الوقت ضحى حين تحركت سيارة الناشطة مغادرة المخيم وجعل اسم المنظمة “جمعية الياسمين للأعمال التطوعية” المطبوع بالأزرق والأصفر على هيكلها الأبيض مهمة تتبعها سهلة. توقفت عند بناية بثلاث طوابق تبعد عن مخيم ‘الكرامة’ خمسمئة متر لا غير، تجاورها منازل مكتراه للنازحين الذين باستطاعتهم توفير أجرة الكراء.

علقت لافتة كبيرة قرب المدخل تعلن عن افتتاح متجر، وزُخرف اسم “بيت البركة” بحروف قوطية تحتها شعار المنظمة. منع البواب الصبية من الدخول وقد بين لها أن المتجر سيفتتح للمستفيدين في الأسبوع القادم ظنا منه أنها نازحة متسولة. فعادت تراقب من الخارج عاقدة ذراعيها لساعتين، وعندما ضاق بها الوضع قررت الدخول على طريقتها.

حامت حول البناية فوجدت خلفها بقعة خالية من المارة. ارتفعت على بعد مترين نافذة مستطيلة ذات باب عمودي نصف مفتوح لكنه كان كافيا بالنسبة لها. انتظرت حتى عبرت امرأتان محجبتان إلى الجانب الآخر من الشارع وخلا بها المكان. رجعت ثلاث خطوات إلى الوراء ثم قفزت بخفة، اعتمدت على قبضتيها ورفعت جسمها بقوتها الذاتية، سحبت نفسها إلى أن صار جزؤها العلوي بالداخل.

لمس أنفها هواء بارد ورائحة نتنة، وبعدما تأكدت ألا أحد حولها، اندفعت لتقفز إلى الأسفل لكن الباب العمودي انقبض فجأة وهوى على أسفل ظهرها. خرجت صرخة مكتومة من الألم ثم حاولت الزحف إلى الداخل لكن بدون فائدة فحاولت العودة إلى الخارج لكن النتيجة كانت انقباض مفصلات الباب أكثر.

أخذت تحرك قدميها العالقتين خارجا كزعانف سمكة خارج الماء. «هل كل شيء على ما يرام يا آنسة؟ أتبحثين عن شيء ما؟» تجمد الدم في عروقها، لمحت رجلا يرتدي سترة بنفسجية يقف بالقرب من رجليها، حاولت التصرف بطبيعية قدر الإمكان وأجابت والتوتر طغى بنبرة صوتها: «سقط شيء لي هنا في الداخل وحين حاولت استعادته علقت، يا للسخرية»

– «شيء يخصك هناك في الداخل… في حمامات الرجال؟» عندها فقط أدركت مصدر الرائحة الكريهة ولعنت حظها.

غاب الشاب لوهلة ثم عاد ومعه كرسي بلاستيكي استعان به ليصل إلى الباب المنزلق. ضربه بقوة حتى انخلع وقال: «يمكنك النزول الآن»

سُمع صوت ارتطام معدن مسدسها حين زحفت على الحافة، فتوقفت للحظة خوفا أن يكون فطن لشيء ما بيد أنه مد يده لمساعدتها وأمسك ذراعها عند النزول. رتبت عباءتها وغطت نصف وجهها بغطاء الرأس مدعية الخجل في محاولة إخفاء ملامحها وتمتمت له بكلمات الشكر اللطيفة.

ابتسم لها الرجل الذي كان شابا في مقتبل العمر، تميل قسمات وجهه إلى الجمال أكثر من الوسامة، عينان فضيتان بأهداب طويلة، تطل إحداهما على شامة رسمت على بشرة شاحبة كالحليب، شعر أشقر وشفتين ورديتين، حليق الوجه، فارع القامة لكنه متناسب مع عرضه، فلا هو شديد النحول ولا فائض العضلات، تفحصته زهراء جيدا بعينيها وقد انتابتها الريبة، فهذا الشاب كان مخبر أبي سلمان الذي رصدته عبر عدسة المنظار قبل ثلاثة أيام فملامحه المميزة تجعل من الصعب الخلط بينه وبين أحد آخر.

سألها ومن نبرة كلامه بدا رقيقا وشديد التهذيب عكس الوقاحة التي أبداها ذلك اليوم: «هل يمكنني تقديم مساعدة للآنسة؟» هزت رأسها نافية فقال: «اعذريني فلست أصادف كثيرين من الناس معلقين على النوافذ»

أرغمت نفسها على إطلاق ضحكة مخنثة وهرشت مقدمة رأسها مفكرة في عذر مناسب، فلاحظت أن سترته البنفسجية تدل على أنه متطوع فردت: «بصراحة… جئت من أجل التطوع فأنا أحب… مساعدة الناس وما إلى ذلك، لكن البواب لم يسمح لي بالدخول»

فلاحت ابتسامة أنيقة على شفتيه وقال: «أتبعيني إلى الداخل، أعرف شخصا سيساعدك»

كان المتجر عبارة عن صالة واسعة تحتوي على مختلف أنواع السلع كل في جزئه الخاص، المواد الغذائية، الألبسة والأقمشة ولوازم المطبخ والتنظيف وغيرها. قدمها الشاب الأشقر إلى امرأة محجبة تحصي القطع على الرفوف وتدون ملاحظات بدفترها.

ارتدت المرأة شالا بلون الأزرق اللازوردي يظهر قليلا من شعرها المصبوغ لكن مشدود بإحكام وقميصا أزرقا فضفاضا مع سروال جينز. أثار طلاء أظافرها الأحمر اللامع انتباه زهراء، كانت أصابعها الرقيقة تبدو في غاية الجمال. وضعت قليلا من مساحيق التجميل على وجهها ذي البشرة السمراء وقد فاحت من ملابسها رائحة عطر منعشة.

طلبت منها الجلوس أمامها وعرفت عن اسمها بنور الآغا، سألتها عن معلوماتها الشخصية وقالت: «ألديك خبرة في هذا الميدان؟»

ردت مرتجلة: «لا أعرف الكثير عن هذا المجال، أتيت لأني أعتبر فدوى الرفاعي قدوتي وأنا معجبة بأعمالها» وثرثرت بما قرأته عنها على صفحات الانترنت.

لاحت أسنان المرأة البيضاء في ابتسامة وقد وافقتها الرأي وشمرت على ذراعيها لتبدأ حديثها عن المنظمة وتاريخ نشأتها، كانت تستمع لحديثها وعينها على الشاب الأشقر الذي جلس بالقرب منهما وهو يعمل على حاسوبه. كانت واثقة من أنه مخبر أبي سلمان، وهذا أثار الشك في داخلها، فهذه المنظمة ذات خلفية مريبة بالتأكيد وأيضا الناشطة، لهذا الأمير يزعج نفسه بالبحث عن نشاطاتها. 

كانت عملية التطوع أكثر تعقيدا مما توقعت زهراء، فقد طلبت منها الموظفة ملء استمارة لاحقا وإرفاقها بالصورة الشخصية وسيكون على المتقدم تقديم ثمن الرسوم الذي هو خمس دولارات إضافة إلى توقيع التزام.

فلاحظت الموظفة امتعاضها فقالت: «ليس ضروريا أن تدفعي رسوم الالتحاق، ويمكنك تجربة العمل معنا ليومين، إن أعجبك عندها عليك توقيع الالتزام» ومسحت كفيها ببعضهما وفسرت: «العمل التطوعي يتطلب كثيرا من الجهد والالتزام، يأتينا عشرات الأشخاص راغبين في التطوع لكن ما يلبثون يتفاجؤون بكمية العمل المطلوبة وصعوبته فيستقيلون بعد مدة قصيرة وهناك نوع ثاني لا يأتي إلا بالمناسبات، قلة قليلة من يلتزمون، ولا نلوم أحدا لأن هذا العمل يتطلب تضحية كبيرة»

– «تضحية؟ لا فالعمل التطوعي وظيفة أحلامي، فهكذا سأقابل أستاذة فدوى» واصطنعت الحماسة، كل هذا بسبب أبو حمزة الملعون.

وضعت نور يدها على صدرها متأثرة بجملة الصبية المبتذلة وقالت: «إذا عملت معنا فأعدك أن تقابلي الآنسة فدوى كثيرا» ولاعبت القلم وقالت: «ليس مهما لكنا في حاجة لأشخاص أصحاب شهادات، أظنك صغيرة في السن، أتدرسين بالثانوية؟» فأجابت زهراء بالنفي، «إذن لديك شهادة إعدادية؟» أجابت بلا. أما هي: «شهادة ابتدائية؟» فقالت مشفقة: «ألم تذهبي يوما إلى المدرسة؟»

خبت الحماسة من وجه الصبية وأجابت: «لقد أخدت تعليمي في البيت»

– «ممتاز وقد أثبتت الدراسات أن التعليم في البيت أفضل» كانت بكلامها تحاول مواساتها على طريقتها: «إذن، هل والداك من أشرفا على تعليمك» لم يكن هناك رد فتمتمت: «آسفة، ما كان قصدي»

كفت عن الأسئلة وقد لاحت على وجهها علامات الشفقة، فقالت زهراء بحزم: «ربما لا أكون متعلمة في المدرسة لكني درست في البيت على أفضل معلم وأيضا قد لا أبدو قوية لكني أستطيع حمل هذا المكتب ووضعه أينما تشائين» ثم نهضت وقالت: «اختبرني قبل أن تحكمي»

كل ما فكرت فيه ساعتها هو كسب الوقت إلى أن تحصل على ما تريد وتجاهلت نظرات الموظفة المستفزة، ابتسمت نور وقالت: «حسن، لما لا تأتين غدا وسأرى ما يمكنني أن أفعله، وقد تقابلين فدوى شخصيا» وضغطت على يدها مودعة كأنها تشد من أزرها أو تواسيها وهذا أثار حنقها أكثر.

خربة اللوز ريف إيبلا الشرقي أيار II021

بعث خرير الماء في البيوت المتناثرة سحرا من البهجة وابتل التراب الطيني من تسربات الساقية على مدى الطريق الحجري الصغير، غذى النسيم برائحة ندية أراحت أعصاب الصبية المشدودة. كان حسينا في انتظارها واقفا قرب الساقية فأشاح بوجهه ظنا منه أنها امرأة غريبة.

أزاحت النقاب عن وجهها حين وصلت إليه فقالت ممازحة: «ألم تعد تتعرف علي الآن؟»

فأجاب متلعثما: «لقد صار صعبا التعرف عليك هذه الأيام، ناسبتك العباءة أكثر… ماذا أقول؟ كلماتي أصبحت خرقاء» نعم وتصرفاتك أيضا، لم يعد الأمر كما كان بعدما أصبح علي صديقه الصغير مجرد فتاة… «إذن ما رأيك بمهمتك الجديدة؟ هل تحتاجين لمساعدة ربما؟»

– «إنه عمل ممل، أرجو ألا يطول الوضع أكثر» ورمت بحجر بأعلى قدمها فقد كان وجود الشاب الأشقر يؤرقها. «بماذا كلفكم الأمير؟»

– «لا تهتمي، إنها عملية اعتيادية لا غير» وهذا عنى أنها عملية سرية، فالأسدي يريد التخلص من جيش التحرير والنشطاء الذين يوفر الحماية لهم، خوفا من خسارة المعبر الأكبر نحو تركيشا وبالتالي خسارة كبيرة في الأرباح التي يكسبها بمساعدة حليفه البغلاني.

– «عليه أن يلتزم بكلمته، فقد ألغى عمليتنا من دون سبب مقنع» تنتابها غصة كلما تذكرت أن أبا يزيد كان قريبا ورغم هذا لم تنقذه. «إني لا أثق بالأمير، حدسي ينبئني أنه من خان العم والرفاق في آخر معركة»

أخفض حسين رأسه وقد امتنع عن البوح بشيء ما واكتفى قائلا: «فلتأخذي حذرك في منطقة المعارضة، فهؤلاء الزنادقة ماكرون»

– «لكني أمكر منهم، فلا يوجد سبب يدفعهم للشك بي» وودعته قائلة: «فلتبلغ سلامي لأبي سلمان وانتبه لنفسك»

شد ذراعها ليوقفها ثم أمسك يده خجلا، وقال بصوت أوطئ: «سأكون قريبا إذا ما احتجتني»

– «أعلم ذلك» ربما هي ليست وحيدة تماما، فحسين لا يزال هنا.

دنا منها أكثر. رن حفيف الأشجار حولهما وبرقشت أوراقها بظلالها وجهه القريب منها أكثر من المعتاد… ابتعد خطوة إلى الوراء محرجا أكثر وغادر.

عندما اكتسحت النجوم السماء الصافية، كانت الصبية داخل البيت تستعد ليوم غد. ستقوم بمهمتها على أكمل وجه، وقد قررت ألا ترتكب الأخطاء نفسها، لذلك كان عليها التخلص من مظهرها المثير للشفقة.

بحثت بين أغراض الأم زهراء القديمة واختارت قميصا أبيضا بأكمام طويلة، ارتدت فوقه سترة خفيفة من دون أكمام مخططة بالأزرق والأبيض، تصل إلى حد الركبة وربطتها بحزام أحمر نحيف. بعثرت أغطية الرأس التي كانت تملكها الأم، جميعها سوداء من الصوف الخشن وواسعة، بعضها يغطي كل الجزء العلوي من الجسد. لم تنتبه الصبية من قبل أنها لا تملك غطاء خاصا بها وفكرت بأن ليست ملزمة بذلك، قد تبدو غريبة فأغلب النساء بالمنطقة يغطين رؤوسهن، حتى غير المسلمات يضطررن لذلك. لكن كلما بدت أكثر سفورا لن يشك أحد بأنها عنصر من فصيل الأنصار.

وبينما هي تعيد تنظيم حاجيات الأم زهراء، انتبهت لوجود صندوق مليء بملابس العم أبي يزيد، كانت كلها ملابس مدنية، سترة جلدية وقمصان رياضية… وعند قعر الصندوق، عثرت على علبة حمراء خُبأت فيها بعناية سلسلة مفاتيح وهاتف قديم الطراز. حاولت تشغيله لكن بطاريته كانت فارغة، انتابها فضول حول ما يحتويه وخصوصا لاعتقادها الأكيد بأنه ملك للعم، فأخذت تبحث عن شاحن يلائمه بما أنه قديم الطراز، حتى وجدت واحدا في درج مليء بالخردة.

أضاءت الشاشة بمستطيل فارغ، فتركته لبعض الوقت ليشحن، واتكأت على الأرض فمال بصرها ناحية السلالم، تراكم الغبار على الدرجات الضيقة المؤدية إلى السطح. هناك ارتمت الأم زهراء كأنها تسبح في الفضاء نحو الزاوية الحادة واصطدم رأسها بالحافة مصدرا صوتا كضربة سندان بنَّاء هوى على صخرة مجوفة… رغم أن عينيها كانتا دامعتين على الدوام… إلا أن دمعتها تلك هزت كيان الصبية التي تسمرت بأعلى السلالم، لم تمهلها أنفاسها سوى أن تنطق بكلمات غير مفهومة: ‘أنت… موتي… سبب’ السبب في موتي؟ لكن الصبية لم تقصد.

واستدارت للجهة الأخرى ضامة ركبتيها بذراعيها ودكات الساعة ترنم في أصداء البيت الخالي برتابة إلى أن غلبها النوم على ذلك الحال.

*******

سامي

كفر توما، غرب شمال حلبا أيار II021

تأرجحت الستائر مع نسمة هواء في شقته ذات الإضاءة الخفيفة، أثاثها يتكون من سرير مرتب، مكتب وكرسي، ومنضدة أكل في نصف مطبخ يتجاور مع الباب. رشف سامي من فنجان القهوة ووضعه على طبقه الخاص لكيلا يترك أثرا على طاولة المكتب. أنصت بتمعن لثرثرة أمه طوال وقت محادثة الفيديو ورد على أسئلتها بالأجوبة التي ستفضل سماعها، إلى جانبها تجلس أخته الصغيرة، تعبث بأزرار لوحة المفاتيح فتحدث خشخشة في الصورة عبر شاشة الحاسوب وأحيانا ينقطع الصوت. عاتبته والدته على قلة اتصالاته وأزعجته بأسئلة تافهة، كهل يتناول وجباته في وقتها، هل يحتاج لنقود لتبعثها إليه، كانت تخاطبه وكأنه طفل في السابعة وقالت ويدها على صدرها: «كلما شاهدت الأخبار يرتعب قلبي، لما لا تأتي للابنون حبيبي، هنا أيضا يمكنك التطوع بالإضافة ستكون قريبا من البيت. لا أستطيع النوم وأنا أعرف أنك في مكان خطر»

– «لا داعي للقلق أمي، إنها يبالغون على الأخبار لا غير والحياة هنا لا بأس بها» وتبسم مضيفا: «كما تطوعي بسورمادا سيكون علامة فارقة في ملف الترشيح للجامعة»

ضمت يديها وأمالت رأسها: «إني حقا فخورة بك، تنخرط في العمل الإنساني وتسعى للدراسة في جامعة مرموقة. لقد كبرت في غمضة عين حبيبي» ومسدت شعر ابنتها موجهة الحديث لها: «إيما لما لا تعرضي على أخيك الكبير رسمتك» فهبت الطفلة تبحث عن كراستها وعرضت عبر الكاميرا خربشة أطفال؛ رسمت صورة لكيلهما، الأخ والأخت، ممسكين بأيدي بعض. كان الفارق بينهما أكثر من عشر سنوات وأب مختلف ولون الشعر وتقاسيم الوجه والابتسامة… فروقات شاسعة. لم يحمل سامي أية مشاعر ودية للطفلة ولا أية مشاعر.

أثنى على أخته ووعدها بقضاء الصيف القادم معا. كانت الأم تسعى جاهدة، أكثر من اللزوم، لتشعره أنه ليس غريبا، لتخلِّيها عنه قبل سنوات. كان يقرأ في تصرفاتها توترا كلما حادثته، فبُعد المسافة لسنين خلق نحو ابنها غموضا. أصبحت تعيش بمفردها مع ابنتها بعد طلاقها فحاولت إعادة سامي إلى رعايتها لكن الأوان كان قد فات.

تحجج بأن لديه عمل لينهي المحادثة ودعته ولوحت الصغيرة تناديه بأن يأتي لزيارتهم قريبا ومر لشاشة الحاسوب الثانية. كان منشغلا بالبحث عن طريقة تمكنه من الوصول إلى المادة الشبح. عثر على إحداثيات المكان السري الذي سجن فيه الدواشع؛ تسلل إلى قاعدة البيانات الخاصة بجيش التحرير، من لوائح وعناوين قادته المختبئين إلى تعقبه لأرصدة الأموال، وبعد البحث في مئات الملفات وجد ما يبتغيه، لائحة السجناء والمراكز الأمنية، لكن تظل معلومة يتيمة إذا لم يرغب السجين في عقد صفقة معه.

وضع سبابته على ذقنه مستعيدا أحداث البارحة، توقع أن يهاجم فصيل الأنصار من تنظيم داشع سيارات نقل السجناء وبدلا منذ ذلك نفذوا عملية تفجير في السوق الشعبي مما سيصعب عليهم تحرير زملائهم وكانت فرصة أيضا لمعرفة من هو علي ذاك.

ازدادت حدة الضوضاء القادمة من النافذة، كان الشباب يفضلون التسكع في آخر الليل على سطح العمارة حيث تقع شقة سامي. دق تَيم الزجاج ملحا عليه بأن يخرج بسرعة وقد تحلق حوله أربعة شباب آخرين تتعالى ضحكاتهم الهستيرية وهم يشاهدون مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

لملموا ضحكاتهم عندما صعد سلام السلالم صارخا ينادي على تيم، واتجه نحوه قائلا: «سأربيك إذا أهلك لم يعرفوا كيف يربونك، هيا امسح هذا الفيديو الآن يا غشيم»

اختبأ تيم وراء سامي قائلا: «أقسم بالله العظيم لست أنا من صور الفيديو، العشرات كانوا يصورون ساعتها»

توارى أنف سلام المكسور تحت ضمادة بيضاء وقد ازرقت المنطقة ما بين عينيه من أثر اللكمة. بصق على الأرض ساخطا: «الله يلعن الفيس بوك والذي اخترعه ومن يصور ومن يفضح العالم والخلق»

سجل الفيديو لحظة جدال سلام مع الفتاة التي دافعت عن داشع علنا وتعنون المقطع ‘داشعية بيبي ضد الشوارب الطويلة’ انتهى باللكمة مترافقة مع موسيقى سخيفة وأيقونات دردشة تسيل منها دموع الضحك فجذب المشاهدات كأي شيء آخر غير مفيد.

قال وسام، أحد الشبان الذين يعملون بأجر في الفريق التطوعي: «أنا أقول فليجازي الله خيرا من نشر هذه التحفة الفنية، فلن نكون حينها قادرين على رؤيتك تضرب على يد فتاة في نصف عمرك»

أثارت الضحكة البلهاء على وجه الشاب حنق سلام أكثر: «تلك المعتوهة لديها يد كالجرافة لو لم أتق الله فيها ل…» أوشك أن يطلق سبة فتمتم مستغفرا، وأمر تيم: «امسح الفيديو أو سأمسح بوجهك الأرض»

– «أنا لا أعرف كيف، يمكن لسامي أن يفعل ذلك» ودفعه نحوه

حدج سلام سامي بنظرة دونية فهو لا يعتبره إنسانا كاملا ورد متعنتا: «امسحه إذا أردت ذلك»

وافق سامي برحابة صدر أو هذا ما أظهره للرجل الطويل ذي عقلية رجل الكهف منعدم الذكاء. كان سلام الحلبي شخصا متناقضا مع نفسه، يحسب أنه أعلى مرتبة من غيره، تفوح منه رائحة السجائر والحشيش، وفق معلومات سامي يشتري زاده من الممنوعات من عند رجل يدعى باهر، يعمل وسيطا بين مناطق الجبهة والنظام.

وقبل أن ينفذ طلبه أعاد مشاهدة الفيديو وأوقفه عند عبارة: “العم أبو يزيد لن…”، إذن لم أخطئ السمع حينها، وقرب الصورة أكثر ليتفحص ملامحها عن قرب. لم يخب ظنه، فقد كانت نفس الفتاة التي حاولت التسلل إلى المتجر هذا الصباح، كان مشهدا لا يراه كل يوم، امرأة معلقة على حافة النافذة، راوده شك لحظتها أنها تحمل سلاحا لكن بدت له مجرد عابرة فضولية عندها لذا لم يكترث.

أزال الفيديو من الانترنت بعد حذف كل الروابط وتثبيته كفيروس واحتفظ لنفسه بنسخة، فشكره سلام على مضض حين أراه أنه لم يعد متاحا على وسائل التواصل الاجتماعي. علق عبد الصمد، وقد كان رجلا في الثلاثين، لديه رقبة سمينة تجعل رأسه يبدو كأنه منغرس بين كتفيه: «هذه أول مرة أسمع أحدا يدافع عن داشع علانية، على الأقل ليس خلف قناع، تدافع عنهم وسط الحشود وتعبر عن وجهة نظرها بتلك الطريقة»

قال وسام: «أحقا؟ من يدافع عن قاطعي الرؤوس تعتبرها وجهة نظر»

– «الأمر سيان كالذي يدافع عن الضبع وحزب البعث، ماذا عن هؤلاء؟»

أما تيم فقال أول ما يخطر على باله: «لا أظنها شخصا سيئا، بصراحة أظن أنها شجاعة جدا»

كان الفتى الساذج محقا فيما يخص جرأتها لكن تصرف الفتاة ينم عن طيش وعدم التفكير في العواقب وأيضا لاحظ أنها لم تكن تدافع عن داشع تحديدا بقدر ما دافعت عن أبي يزيد وبغيرة شديدة وتمعن في صورتها فقد وجد خيطا جديدا يساعده في مهمته.

*******

سلام

اكتفى سلام بالمشاهدة بينما يفرغ الشبان حمولة العربة، وبالرغم من وجود طاقم تصوير من قناة ‘العربي الحر’ فضل الانزواء خلف عربته وقاوم رغبته في الظهور على شاشة التلفزيون، ود لو يرسل لوالدته ويخبرها أن تتابع البرنامج الفلاني وبما أن بصرها أضحى ضعيفا سيشير من أجلها إلى الشاب ذي القميص الكستنائي شامخ الهامة. لكنه الآن يضع نظارات شمسية متحاشيا نظرات الشبان الأغرار الساخرة.

متّع ناظريه وهو يدخن سيجارته بمراقبة الفتيات المتطوعات وهن في صدد تزيين مدخل المتجر ببالونات زرقاء وصفراء ووضع لافتات إعلانية استعدادا لافتتاح بيت البركة أمام المستفيدين، واستقرت عيناه حول خصر فتاة، غطت رأسها لكن نسيت أن تستر ذلك القوام الممتلئ وقد تمركز بصره حول البنطلون الضيق من الخصر ليصل إلى الساقين البضتين المثيرتين.

لاحظت نور، المشرفة على المتطوعين، وقوفه من دون عمل فأمرته بأن يطفئ السيجارة وأن يتبعها، دور عينيه فهو مجرد سائق يعمل بأجر زهيد قد يقبضه أو لا. أوكلت إليه مهمة نقل بعض الصناديق نحو الرفوف وأضافت: «عندما تنهي ذلك ستقوم بتسعير السلع حسب النقاط» ونادت على فتاة قائلة: «زهراء تعالي إلى هنا من فضلك»

ربتت على كتف الصبية قائلة: «حبيبتي، أرجو منك أن تشرحي لسلام عملية التسعير، كما علمتك»

أخفض سلام النظارة وشتم قائلا لنور: «ما الذي تفعله هذه هنا؟!»

ضربته نور لذراعه ممازحة بلهجتها الحلباوية: «ماذا تقول، زهراء ما شاء عليها أنهت ثلاثة رفوف لوحدها، ما شاء الله عليها سريعة، سريعة» وربتت على رأسها كأنها جرو وقد كان الامتعاض واضحا على ملامحها ثم ألحت عليهما بالإسراع في العمل.

تبادلا نظرة ملؤها الحقد والسخط وقال: «هل غيرت داشع عملها من قطع الرؤوس إلى الأعمال الخيرية أم ماذا؟»

عبست في وجهه مجيبة: «ولما ستفعل وهناك رأس يجب أن تجز» ومررت يدها على العنق فأدار رأسه يمينا وشمالا باحثا عن نور التي تضم كل من هب ودب.

أخذ يراقبها بحذر وهي تضغط على مكبس تثبيت الورق بطرفه الحاد كلما ألصقت تسعيرة على القطع التي تختلف عن بعضها البعض، فقد كانت بعض السلع المعروضة كالملابس أغراضا قدمها متبرعون. فجأة، التفتت إليه ولوحت بالمكبس ناحيته فتراجع خطوة إلى الوراء، قالت: «لقد أخطأت، النقاط الموضوعة للمعاطف تختلف عن القمصان الخفيفة»

– «و… وما شأنك؟ إني أعرف ما أفعل»

فرفعت اللائحة الطويلة نحو وجهه وقالت: «هل دماغك يعجز عن القراءة أيضا؟»

نزع الورقة الصغيرة لاعنا وأعاد وضع أخرى، لو لم تكن امرأة لرد لها الصاع صاعين واستمر في العمل الممل الذي يجعل المرء يريد شنق نفسه.

مر تًيم من جانبه فصاح من دون أن يلقي التحية: «هيه، أتعلم أن الفتاة الداشعية…» فبتر جملته حين لمحها تقف على بعد أمتار، فأخذ يتهامسان: «ما هذا أتصالحتما؟» «هل أنت أحمق؟ اذهب وأخبر نور، علينا إخراجها من هنا» «لماذا؟ تبدو فتاة لطيفة» فكاد أن يضربه: «يا الله، لييك ألا تفهمون…» وصمت عندما حدقت إليهما بعينيها المفترستين.

ازدادت البلبلة بالخارج فاتجه سلام نحو النافذة، حط موكب من السيارات العسكرية مخلفا وراءه كومة من الغبار، سأل تيم عما يفعلونه فهز الفتى كتفيه من دون مبالاة.

تعرف سلام على قائد جيش التحرير وهو ينزل من سيارة جيب غالية الثمن، كانت صلعته تلمع من بعيد وبذلته الرخامية جعلته أكثر بدانة، يتحرك مختالا بأناقته المبتذلة وحراسه الذي يحمونه. كان شفيق حيدر عقيدا في جيش النظام وانشق أواخر السنة الرابعة من الثورة، متأخرا بشوط كبير عن أقرانه، فلم يترك القوات النظامية إلا بعد أن هُزموا في معركة ضد قوات داشع.

في الوقت الحالي، تنقسم سورمادا إلى ثلاث شبه دويلات، القسم الأكبر استعاده الضبع بعد تدخل الروش، والأكراد أقاموا دولة في الشرق بمساعدة الأمريكان مقابل النفط، وها ذا المدعو شفيق يسعى إلى منافسة البغلاني على حكم الشمال ببضع أموال قدمت إليه من الخارج.

ألقت الصبية نظرة من النافذة المجاورة وذهب لونها فعلق قائلا: «ما بك؟ هل ظهر القط فارتعب الفأر؟»

أجابت بنبرة صوت عالية: «من تنعته بالخائف؟ حقا إنك زربول بن صرماية»

– «أنت بنت شرموطة…» فأوقفه تيم وقد كاد أن يوجه قبضته إلى فمها اللعين ذاك: «طول بالك أخي سلام، طول بالك»

قدمت نور بخطواتها السريعة نحوهم وقالت: «ما بكم توقفتم عن العمل؟ آه لقد جاؤوا»

سألها: «ما الذي يريدونه؟»

– «لا تبالي بهم، يريدون من طاقم التصوير أن يعرض أن جيش التحرير يساهم في الأعمال الخيرية وإعادة بناء المدينة وهكذا ترهات» ووضعت يديها على خصرها: «إنهم يريدون أخذ كل الفضل على تعبنا، لا نمانع ما داموا لن يمنعونا عن إكمال مشاريعنا»

فقال تيم: «آه، لهذا الخالة فدوى لم تأتي اليوم»

– «المضحك في الأمر، أنهم يرغبون في مقابلتها بدلا من رجل سمين، لكن ما العمل فالسلاح يحكم» وصفقت بيديها: «ونحن سنكمل عملنا، هيا»

وجالت ببصرها قائلة لسلام وللصبية: «لقد أنجزتما الكثير، أحسنتما. ما شاء الله عليكما شاطرين» وصفقت بيديها مضيفة: «هيا من سيصعد إلى الطابق العلوي معي من أجل تسعير أغراض المطبخ والحمام» فاستغل سلام الفرصة وقال: «آسف أختي نور، زبون يتصل بي» فحضنت الصبية قائلة: «إذن أنا وزهراء سنكمل العمل»

*******

سامي

مخيم الغول، شرق شمال حلبا أيار II021

تشابكت الأسلاك المدببة على مدى أطراف المخيم الواسع، وتشكلت قضبانه من الفقر والجوع. تجاوز سامي رفقة رياض خياما ممزقة تسربت إليها مياه المجاري المتسربة من المراحيض الفائضة، كانت تعلو في الأجواء أصوات بكاء الأطفال وسعال النساء.

ضم المخيم أكثر من ستين ألف شخص من أربعين جنسية مختلفة، أغلبهم أناس من سورمادا والعراقة، بينهم أفراد عائلات مقاتلي التنظيم، إضافة إلى بضعة آلاف من عائلات المقاتلين الأجانب، حدد لهم قسم خاص تحت حراسة مشددة. تسود المخيم ظروف معيشية قاسية وتستفحل فيه الجريمة، كان عبارة عن سجن كبير في الهواء الطلق فلا أحد من قاطنيه يستطيع مغادرته إلا في حالة الطوارئ وبمرافقة من الحراس. تصيخ عيون الأطفال والنساء بالقهر والظلم تخفي وراءها قنبلة موقوتة. تجاهل الذين أعلنوا الحرب على الإرهاب أن استنباته وصناعته نتاج البيئة والظروف المزرية أولا أما عنصر الإيديولوجيا الدينية فما هي إلا محفز يضاف في الأخير.

انتظرهم موظف بإدارة المخيم الذي لم يطرح أسئلة كثيرة بعد دفع المال واكتفى بنصحهما بعدم الاقتراب من أحد إلا من خلف السياج أو القضبان حفاظا على حياتهما أو ليتجنبا الضرب، كان كلامه كوصية إدارة حدائق المحميات الحيوانية في أدغال إفريقيا.

عرض سامي على بضعة نساء صورة الفتاة وسألهن عن اسم ‘زهراء نيسان’ الذي عثر عليه في لائحة المتطوعين، لكن لا أحد منهن تعرفت عليها حتى بعد إغرائهن بالمال.

قال سامي لرياض وقد حرقت الشمس بشرته الشاحبة: «أهذه هي طريقتك المضمونة التي تبجحت بها على الهاتف؟»

– «لن يعرف داشعية إلا داشعيات مثلها» وعاد ينظر إلى الصورة: «وهل أنت متأكد من أنها واحدة منهم؟»

كان متأكدا، فما دامت الفتاة تدافع عن أبي يزيد بتلك الطريقة فلابد أن تربط بينهما علاقة وطيدة. فقال محدثا نفسه: «لو امتلكت شيئا كرقم بطاقة هوية، فيمكن البحث في قاعدة البيانات»

انفجر رياض بالضحك ورد: «قاعدة ماذا؟ هل هذا اسم حاسوب؟ قبل الثورة، كانت فروع الأمن ستوفر لك هذه المعلومة في غمضة عين، لكن تم تخريبها من قبل المتظاهرين، إذا أردت الحصول على شيء مفيد، عليك الذهاب للمدينة التي أتت منها»

لم يجبه وعقد ذراعيه، لو كان يعرف لَما أتى إلى هنا، فقد كان الأمر أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. أخذ رياض يسأل الرجال محاولا اعتماد طريقة مغايرة، فصاح به أحدهم: «استحيي من نفسك، فنحن لا نمعن النظر في الحريم» فرد عليه الآخر صارخا: «وماذا تظن نفسك؟ ملاكا منزها»

طرح على سامي الاتجاه نحو ملحق المخيم، كان مثابرا إذ لم يشأ الرجوع خاوي الوفاض طامعا في الدفعة الأخيرة. تفرقا يسألان النساء من خلف السياج، كان الملحق أقذر من المخيم الرئيسي، سجنت فيه عوائل المقاتلين الأجانب من داشع. كانت أغلب النساء يتحدثن بعربية ركيكة وقليل منهن من يجيد الإنجليزية أيضا.

مسح رياض عرقه بكوفيته وقال له مستسلما: «سأبحث من أجلك بين معارفي عنها»

تفحص سامي ساعته وقد انقضى من النهار معظمه ورفع نظره اتجاه أولاد يشربون من خزان مياه غسيل قذرة تطفو منها الديدان، أشاح بوجهه بعيدا عنهم متسائلا كيف يمكن لبشر العيش هنا.

كاد أن يعود أدراجه حين اقتربت امرأة قائلة: «سمعت أنكما تبحثان عن زهراء نيسان؟»

فابتهج رياض وهمس: «ألم أقل لك؟ الداشعيات سيعرفن بعضهن»

كانت امرأة تغلب على تقاسيم وجهها ملامح سكان شرق آسيا، توارى جسدها خلف رداء أسود خشن، سألها سامي: «ماذا تعرفين عنها؟»

– «وما المقابل؟» فأشار لرياض ليمد لها المال فنظرت إلى سامي وقالت بثقة: «مئة دولار»

مد لها رياض ما طلبت وتوعدها قائلا: «لا تفكري في العبث معنا، إني أعرف الموظفين وبكلمة واحدة مني سيجعلون حياتك جحيما»

خبأت المال داخل صدريتها وردت ساخرة: «جحيم أشد من هذا؟ لا أظن»

قال سامي بنبرة هادئة: «أرجو أن تعذري زميلي، إنه لا يقصد. أأنت مهاجرة؟ عربيتك لا غبار عليها»

– «شكرا، قد سعيت جاهدة لتعلمها في أسرع وقت قبل مجيئي إلى هنا» تنهدت ناظرة نحو الأرض واسترسلت في الحديث: «كان الطريق يسيرا، لا أحد أوقفنا أو حذرنا مما ينتظرنا. أذكر كم كنت خائفة في مطار تركيشا من أن يُكتشف أمرنا، أنا ورفيقة لي، لكن عامل الجمارك آنذاك ابتسم ساخرا حتى أنه لم يكثر الأسئلة بعد أن عرف أننا متجهون لسورمادا، بعد وصولي بأشهر فهمت مغزى تلك الابتسامة، كل شيء كان مجرد خديعة لا غير» وعضت على شفتها متحسرة: «أفضل أن أعود إلى بلدي، إلى السجن المؤبد هناك، سيكون أهون بكثير من بقائي عالقة في مخيم الهلاك هذا» أبدى سامي تعاطفا مصطنعا ليكسب ودها وقد اتضح أنها كثيرة الكلام فأعاد سؤالها عن هدفه.

أجابت وكأنها تفكر في ماض بعيد: «زهراء… كانت معي امرأة في عنبر المجاهدات بهذا الاسم، أو الأحرى اسمها القديم. كانت المشرفة علينا أنا ورفيقاتي، آخ امرأة متصلبة بقلب قاس، لم تكن تتهاون في معاقبة إحدانا عند أي خطأ»

– «أكانت تربطها علاقة بأبي يزيد؟»

– «أجل، قد كانت زوجته» زوجته؟ كان أمرا غريبا بما أنها نادته بالعم، «عندها ظننا أننا قد ارتحنا منها لكن أصبحت أكثر تعنتا بما أنها تزوجت بمقاتل قيادي»

علق رياض: «هؤلاء الدواشع حقا يستمتعون بالحياة قدر ما يستطيعون، متزوج بفتاة بعمر ابنته، أهنئه على هذا»

حدجته بنظرة مستنكرة وقالت: «ابنته؟ لقد كانت أكبر منه سنا»

ولما عرض سامي عليها الصورة كان ما توقع إذ المرأة لم تتعرف على الفتاة. وقد رجح قبلا ألا يكون اسمها الحقيقي زهراء نيسان، إلا أنه استمر في سؤالها لعله يعرف شيئا يفيده في بحثه: «هل كانت زهراء هذه مهاجرة مثلك؟»

– «لا، سمعت أنها كانت راهبة أو شيء كهذا، كانت تعيش في دير بإحدى القرى وتم أسرها ولولا أبا يزيد لأصبحت سبية تتنقل بين المقاتلين. الحقيقة لا أفهم لما تزوجها من المقام الأول، فقد كانت أكبر منه سنا وقبيحة، وأيضا كان برفقتها طفل، المرء يتساءل كيف لراهبة أن تمتلك ابنا. لابد أنها كانت في الماضي… أنت تعرف ما أقصد»

– «ألديك فكرة أين تعيش الآن؟»

أجابت نافية فأطرق سامي رأسه مفكرا وقد بدا أنه وصل لطريق مسدود آخر، فأردفت المرأة ناصحة: «إذا أردت البحث عنها فلتستخدم لقبها بدل اسمها، فلتسأل عن أم علي زوجة أبي يزيد، سيسهل الأمر عليك»

أم علي؟ «أتقصدين علي المجاهد الشبح؟»

اندهشت من معرفته بذلك وأجابت: «أنت أيضا سمعت به» وأطلقت ضحكة قبل أن تكمل: «لا أدري لما يحيطونه بكل هذه الهالة، إنه مجرد طفل مع بندقية وبعض المتفجرات ولا يستحق كل الجلبة التي يحيطونها بها»

تدخل رياض: «سمعت أنه رجل بالغ»

قال سامي: «إذن كم عمره؟»

فكرت محاولة التخمين: «رأيته عدة مرات لكن هذا قبل سنتين أو ثلاث، أظن كان في الثالثة عشر أو ربما أقل من ذلك»

– «ألديك صورة له؟ أو يمكنك وصف ملامحه»

– «صورة؟ لا أظن… على ما أذكر كان هزيلا، قصير الطول بالنسبة لعمره كما يمتلك وجها مخنثا بشعر أسود. لكن أجمل فيه هو تلك العينين الخضراوين، يخدعان المرء بجمالهما، حمدا لله لم يشبه والدته البغيضة»

كلما تعمقت المرأة في وصف علي هذا، كلما اتضحت الصورة لسامي أكثر، فأعاد يعرض عليها الصور من لوحه الرقمي وقال مؤكدا عليها: «انظري جيدا، هل هناك شبه؟»

فوضعت يدها على شفتيها: «أوه إنهما متشابهان لكن هذه… لقد ظننتها فتاة، آسفة قد اختلط الأمر علي بالشعر الطويل والملابس»

قال سامي: «إذن أنت تقولين بأن الشخص في الصورة هو علي»

هزت رأسها مؤكدة كلامه، سأله رياض هامسا: «كيف؟ أيعني هذا أن علي… فتاة؟»

اتضح أن الفتاة أخطر بكثير مما ظن، لكن ما الذي تريده من الفريق التطوعي؟ كما أنها قد تكون قد تعرفت على وجهه. ورغم هذا ارتسمت ابتسامة هادئة على محياه فقد عثر على بطاقة التفاوض التي كان في حاجة إليها.

*******

زهراء

كفر توما، غرب شمال حلبا أيار II021

أخذت زهراء نفسا طويلا وأطلقته، فقد كان نهار البارحة متعبا إلى حد الإنهاك والمخيف في الأمر أنها لم تنجز ما ذهبت من أجله، وبدلا من ذلك وجدت نفسها كالفأر في المصيدة وسط عشرات من مقاتلي العدو بمعنى الكلمة. أحست كأنه تم التلاعب بها، فقد كان للمشرفة طريقة خفية في غمر المرء بالمهمات التي تبدو في ظاهرها بسيطة وعندما يحاول النجاة تنسل بسلاسة كلامها وتغريه بالثناء ومن دون سابق إنذار يجد نفسه قد تورط في مهمة أخرى. كان الوضع أشبه بالغرق في دوامة تستنزف الروح والجسد.

حملت صندوقين كبيري الحجم من دون أن تنتظر أحد ليساعدها، ووزانتهما بين ذراعيها صاعدة إلى الطابق الثاني تراقب خطواتها على الدرج حتى لا توقع الصندوق العلوي. لمحها تيم من الأعلى فهب لمساعدتها وأخذه منها وكاد يوقعه إذ تفاجأ بثقله. كان شابا قصيرا غريب المظهر؛ يلبس تشيرتا رسم عليه قوس قزح وتحته كتب ‘كن متفردا جاك آس’ وإن لم تفهم الكلمة الأخيرة. وسروال جينز ضيق وقصير أظهر قدميه الضخمتين اللتين تكادان تفران من الحذاء الأبيض الرياضي.

سبقته في الصعود بينما هو يتأرجح بين الدرجات، فوضعت ما بيدها على الأرض ونشلت الصندوق منه لبطئه في الحركة. أخذ الفتى وقتا للراحة عند منضدة خدمة الزبائن ثم عاد إلى حاسوبه. رتبت البضاعة الجديدة على الرفوف برفقة بضعة فتيات اللاتي كان عددهن ضئيلا مقارنة مع الشبان، كن يثرثرن بأفواههن أكثر مما يستخدمن أيديهن. لم تستطع الانسجام معهن ولا مع أي أحد، فقد اتضح لها أنها عُرفت في وسطهم ب ‘الداشعية بيبي’، كان الوضع يثير حنقها والسبب صاحب الشوارب الدنيء، الأمر الذي جعل مهمتها أصعب، فلم ترسل شيئا مفيدا للجهة العليا. ليس كأنه يوجد شيء مثير يحدث في هذا المكان، فقد كانوا مجرد بضعة أناس مسالمين غارقين بترهاتهم اليومية.

أكملت ما بيدها وحين لمحت نورا قادمة اختبأت وراء المنضدة جالسة إلى جانب تيم، فشعره كان كأجمة من الأحراش. ضحك متمتما: «أهاربة من بيغ ماما؟» لم تفهم فحاول الشرح: «ندعو نور هكذا، أما مياس فنلقبه باللحية الشهباء بدل اللحية البيضاء… تعرفين، كما في مسلسل ون بيس» كان كمن يتحدث بلغة ثانية بالنسبة لها، ربما كان يقصد أهمية نور ومياس بالنسبة للفريق، ففدوى كانت مجرد واجهة إعلامية في حين يتولى الآخران الأشغال الصعبة؛ فالمشرفة تسهر على تنظيم مهمات المتطوعين والمأجورين وتراقب سيرورة العمل بهوس، أما مياس فقد كان من يتكفل بالأشغال الميدانية وتتبع صرف التبرعات.

صعد الشاب الأشقر الذي جاء لتوه، كان يحمل على كتفه اليمنى حقيبة حاسوب محمول ويضع ساعة رقمية على معصمه تبدو غالية الثمن. ارتدى قميصا رياضيا رماديا قصير الأكمام مع سروال من الدنم الأسود الخفيف، ملابسه بالرغم من بساطتها إلا أنها مرتبة إلى حد مريب كتصرفاته.

شغل ماسح الباركود وقام بتوصيله إلى حاسوبه لمعاينته. كان تيم في تلك الأثناء يحمّل صورا على الموقع لمنازل صغيرة بتصاميم متشابهة فسألته: «لمن هذه؟»

– «ليست لأحد بعد، إنها المنازل التي أشرف فريق الجمعية على بناءها ضمن مشروع ‘قرية الأمل’» وفتح صفحة إشهارية. وضعت زهراء خدها على يدها تقرأ ما دون عليها، تروج لمنطقة سكنية سيستفيد منها النازحون الذين لا يملكون بيوتا، ووضع أسفل الصفحة رابط للتبرع، فعلقت تكلم نفسها: «لابد وأنهم يتسلمون أموالا كثيرة»

– «عفوا؟»

– «أقصد، إنها فكرة جميلة»

– «أجل، الخالة فدوى تسعى لجمع المزيد من التبرعات، ستكبر المنطقة السكنية لتصبح كقرية، وسينشأ فيها حدائق وملعب، وأيضا مدرسة» كان يتحدث وهو ينقر على صور التصاميم المستقبلية ليعرضها عليها: «فيها سيجمع شمل الأهالي الذين فقدوا أبناءهم في الحرب مع اليتامى ليصبحوا سندا لبعضهم البعض»

يا لها من فكرة حالمة، ربما ستتحقق في عالم الخيال: «لابد أن الأستاذة فدوى عبقرية، هل هي خالتك حقا؟»

– «كلا، كانت صديقة مقربة لوالدتي، فقد كانتا معا ضد الضبع ونظامه حتى قبل أن تبدأ الثورة»

– «إذن والدتك ناشطة أيضا؟»

– «كانت، رحمها الله» وابتسم بحزن

– «لم أقصد أن أذكرك، لابد أنك تشتاق إليها»

– «أحيانا، لكن هنا ضمن الفريق أشعر وكأني وسط عائلة» ولاحت ابتسامة بلهاء على وجهه. عائلة؟ لما هذه الكلمة صعبة الحدوث، كلما ظنت الصبية أنها امتلكت واحدة، اختفوا واحدا تلو الآخر، حتى الأم زهراء التي كرهتها… لا، لا تذكريها بعد الآن، فقد ماتت هذه المرة.

اتجهت نور بخطواتها السريعة نحوهم من دون أن تترك مجالا لزهراء لتختفي عن ناظريها. قالت موجهة الحديث للشاب الأشقر: «سامي أقلقتني عليك يا فتى عندما لم تأتي البارحة، هذه ليس من عادتك» وربتت على كتفه: «ليس شيئا سيئا لا سمح الله، أليس كذلك؟»

– «كلا إنه مجرد ظرف شخصي، لا تقلقي لقد أنهيت العمل الموكل لي»

وأشارت إلى الجهاز: «إذن، هل كل الماسحات جاهزة؟»

– «أجل، تم تعييرها كما طلبت»

– «ومن أجل…»

– «إذا كنت تقصدين معالج الدفع الجديد من أجل استقبال التبرعات، فقد قمت بدمجه على الموقع وانتظر موافقة مياس لاختباره»

وضربت كفيها ببعضهما قائلة: «يعني أنك انتهيت حقا، ما شاء عليك نبيه، نبيه. إذن ما رأيك أن تنضم إلى ترتيب…»

_ «أخشى أني لا أستطيع»

– «ماذا عن حمل…»

– «للأسف، هذا ليس مجالي»

كان يصد نور اللحوحة بطريقة وقحة ومؤدبة في الوقت نفسه. التفتت زهراء إلى تيم هامسة: «كيف يقوم بذلك؟»

رد مقتربا من أذنها: «لهذا نسميه بارد الأخلاق» فأطلقا ضحكة مكتومة، نظرت نور نحوها: «زهراء حبيبتي، إذا انتهيت، اتبعيني»

تمتمت لتيم: «أوبس، أليس هناك أمل في أنها لم تلاحظني بعد؟» فوضع الفتى يديه حول عنقه بمعنى أن الأوان قد فات.

كلفتها بمزيد من الترتيب إلى أن انقضى النهار، هذا اليوم أيضا لم تقابل فدوى أو أي شخص مثير للاهتمام، حقا ما الذي يسعى إليه أبو حمزة اللقلوق؟

انتظرت زهراء قرب لافتة الحافلات على أمل أن يمر ميكروباص. توردت السماء من خلف البنايات قبيل المغيب واشتدت الحركة مع اقتراب وقت حظر التجوال. غادرت نور المبنى رفقة بعض الشباب منهم تيم، كانوا يأتون ويذهبون كعصبة، فلما لمحتها قدمت إليها قائلة: «زهراء، لا زلت هنا؟ لابد أن أهل الدار سيعاتبونك على التأخر» هزت كتفيها موضحة أنها ليست مشكلة.

– «أستحضرين افتتاح المتجر غدا؟ سيكون صعبا أن تذهبي وترجعي في الصباح الباكر، أين قلت إنك تسكنين؟» هرشت زهراء مقدمة رأسها فهي لم تخبرها أساسا وردت مرتجلة: «نواحي قرية علين»

– «أوه، هذا بعيد جدا» وضربت كفيها، الحركة التي تخيف زهراء أكثر من أي شيء في هذه المرأة واقترحت أن ترافقها إلى مكتب المنظمة مفسرة: «سيجتمع أغلب الأعضاء هناك، ويمكنك المبيت بدل الذهاب والرجوع في الصباح، هذا إذا لم يمانع أهل الدار»

لم تتخيل زهراء أن تأتيها فرصة كهذه. حاصرتها نور بين ذراعيها قائلة: «يمكنك المبيت إلى جانبي، فتاة صغيرة الحجم مثلك لن تأخذ حيزا كبيرا» ابتسمت الصبية بصعوبة متسائلة كيف يمكن لها أن تثق بها بهذه السهولة.

استقلوا سيارة تحمل شعار المنظمة، داخلها أشبه بغرفة أحد ما، أغطية على المقاعد وخيوط الحواسيب ملتوية هنا وهناك، كؤوس قهوة متسخة، معدات للرحلات وطاولة لاب توب محمولة. أخذت مكانا بين تيم وفتاة تضع شالا ورديا يتناسب مع لون شفتيها. جلس مياس في الأمام، همس لنور بكلام لم تسمعه لكن تعلم مضمونه إذ لم ينس موقفها عند حادثة السيارة المفخخة، وشغَل الشاب الأشقر المقعد في الزاوية يطقطق على لوحة مفاتيح حاسوبه واضعا سماعتي أذن، ربما هو بالأخير مجرد تقني مهووس.

ركب سلام صاحب الشوارب في مقعد السائق بعدما أطفأ سيجارته وشغل المحرك، وحين أدار رأسه ليرجع بالسيارة إلى الخلف رآها فقال: «أعوذ بالله من همزات الشياطين» فأدارت زهراء رأسها جانبا فلن تجادل هذا السفيه من جديد.

علق تيم ضاحكا: «لقاء الأحبة دائما ما يكون مشحونا»

صاح سلام في وجه نور: «ماذا تفعل هذه هنا؟»

فلاحت بيدها مهدئة: «إنها ذاهبة معنا»

– «وإلى أين؟ إن شاء الله لا تكون ثكنة أبي بكر البغذاذي»

هدّأ مياس من روعه وشغّل المذياع على ألحان أغنية شعبية فأخذ تيم يردد مقاطعها فرافقته نور بصوتها النشاز، فانضم سلام بغنائه الذي تجاوز غناءها سوء. علقت الفتاة صاحبة الشال الوردي: «لقد خربتم الأغنية يا عالم»

قهقه سلام وزاد من ضجيجه متعمدا، يردد: ‘عالالا ولالا… وليش الزعل يابا… وهي ما زعلت مني… هي زعلت لحالا’

حثّ تيم زهراء على الغناء معهم قائلا: «ألا تحفظينها؟» كانت تحفظ مقاطع منها لكنها لم تشأ أن تبدو سخيفة مثلهم. إلا أنه بنفس الوقت بدت لهم متزمتة.

فعلق سلام مدكرا إياهم من موقفها: «اتركها فالأغاني عندهم حرام» وغير المحطة باحثا عن أغنية أخرى مفسدا الأجواء على الآخرين، فصفقت نور قائلة: «بلاها المذياع، خلونا نغني مع بعض، لييك تيم اعزف لنا شيء»

– «غيتاري ليس في حوزتي الآن»

لم يتوقف صاحب الشوارب القبيحة عن السخرية منها أمام رفاقه: «لما لا تسمعنا الداشعية صوتها، فقد تغني لنا كورالا للجهاديين»

فأجابته بابتسامة لطيفة: «للأسف لا أحفظ شيئا كهذا إلا أني أعرف أغنية قديمة، ما رأيكم؟» وصفقت بيديها الاثنتين، لا بأس يمكن مسايرتهم قليلا وتخرس هذا الأحمق: ‘زمرينا ورقدينا’ وضربتان ‘لصفريتو شهرينا’ ثم نغمتان ‘زمرينا ورقدينا’ ضربتان ‘لصفريتو شهرينا’ ثم تتابع اللحن وكلمات الأغنية وقد شاركتها صاحبة الشال الوردي الذي تبين أنها تحفظ الأغنية أيضا، أغنية من أيام الدير، رددتها كما كانت فتيات القرية يفعلن بين أشجار حقل الزيتون.

انضم الآخرين تباعا حتى صاحب الشوارب، ثم تبدل الإيقاع لأغنية أخرى، لم تتعرف عليها زهراء لكنها دندنت معهم على كل حال. حام جو من الألفة بينهم كأنهم يعيشون في عالم بعيد عن الصراع مقتطعين وقتا لأنفسهم رغم الظروف.

استدارت السيارة إلى طريق فرعي من شارع خالد بن الوليد وقد اقتربوا من حاجز تفتيش، فخرسوا جميعا وجهزت زهراء نفسها للتفتيش كالعادة. امتد صف طويل أمامهم، فتأوه تيم: «إلى متى ستستمر هذه الحواجز؟ لقد مللت منها»

رد سلام: «انظروا من يتحدث؟ أنت لم تكن هنا حين كان على المار أن يخمن هل هذا حاجز تابع للنظام أو المعارضة، كان الأمر مثل اللعب بقطعة نقدية، يا إما الموت أو الحياة»

تنهد مياس وقال: «لم يكن هذا ليعقيك أخي سلام، فلقد كنت صديق الكل»

– «لقد أفلح الأمر فها أنا حي يرزق، اُختطفت مرة وعدت سليما معافى قطعة واحدة كيف؟ تفاهمنا وتعارفنا أنا والخاطفين وهذا ما يسمى دبلوماسية»

أخفض سلام السرعة تدريجيا عند اقترابه من نقطة التفتيش إلى أن توقف عند السلك الشائك. تبادل تحية ودية مع الضابط وسؤاله عن حاله وحال عائلته، في حين ألقى زميله نظرة سريعة على الركاب ثم تركهم يعبرون من دون أسئلة، ربما هذا الأحمق ليس أبلها تماما.

كان المكتب يقع في مبنى خصص أكمله للمنظمة، صعدوا درجات معدودة وراءها باب زجاجي بقسمين، ونحتت حروف معدنية ضخمة على واجهته بالأحرف الإنجليزية تقرأ ‘ياسمين’ تلمع بألوان براقة ومن فوقها مجسم لكوكب بنفس ألوان. في حين علقت راية الثورة بألوانها الثلاثة الرتيبة، منحنية بكسل بأعلى البناء، تبتدئ بالأخضر وتنتهي بالأسود ومن بينهما يقبع الأبيض رمز السلام تجاورها الراية التركيشية الحمراء.

تفرقت المجموعة إلى ثنائيات فور نزولهم، رافقت زهراء صاحبة الشال الوردي وقد تجلى لها أن صفة الداشعية أخذت تتبدد بعد غنائها معهم. تقدم سامي الآخرين وحيدا وفتح الباب للفتاتين لتدخلا أولا.

كان المدخل عبارة عن قاعة فسيحة، على الجهة الشمالية مصعد وفي الوسط منصة استقبال، فاحت رائحة الطلاء من الجدران ومن أرضيته تبين أنه قد أقيم ترميمه منذ فترة قصيرة. كان من الواضح أن المنظمة تتلقى تمويلا كبيرا من رعاياها.

اتجهت زهراء نحو المصعد قبل الفتاة، فرن شيء ما، حامت حولها متسائلة عن مصدر الصوت فاقترب رجل الأمن مشيرا إلى كاشف المعادن الذي مرت من تحته وطلب منها الوقوف في مكانها. نصحتها الفتاة قائلة: «يحصل لي هذا أحيانا، من الأفضل أن تضعي المفاتيح على الطاولة جانبا»

لكن زهراء تعرف أن المشكلة ليست في المفاتيح. مر الآخرون قبلها واحدا تلو الآخر وقد لاحظوا غرابة سلوكها والبواب ينتظر أن تفرغ ما في جيوبها. فكرت أن تعود أدراجها مدعية حدوث طارئ لكن هذا سيجعلها موقفها أكثر غرابة، كما أن الدخول إلى المكتب فرصة لا تعوض، الله لا يوفقني، إنهم يحدقون بالفعل.

ألح رجل الأمن عليها فخاطرت ووضعت المفاتيح أولا ثم انحنت إلى عنق جزمتها الطويلة وسحبت مسدسا صغيرا ومن القدم الثانية مشط الذخيرة الإضافي، والأسوأ كان معلقا على خصرها تحت السترة المخططة، مسدس بريتا من طراز 92ف.

ومرت تحت كاشف المعادن فرن من جديد بصوته المشؤوم، كانت دائما تنساها، سكين الجيب المخبأة أسفل صدريتها على الجهة اليسرى ففتشت عنها ووضعتها إلى جانب عتادها. تبادل الجميع نظرات مرتابة، فهزت كتفيها وتحججت قائلة: «ضروري أن يحتاط المرء جيدا لانعدام الأمان هذه الأيام كما تعلمون»

ابتعدت الفتاة الوردية إلى الخلف، فأطلق سلام صفيرا وأجاب: «لييك المعارضة ولا تملك هذا الكم من الأسلحة» وأشار إلى نور: «أرأيت؟ هذا ما حذرتك منه»

دنا مياس من الصبية وسألها بجدية: «قولي الحقيقة، لما تحملين هذه الأشياء؟»

أخفضت رأسها نحو الأرض وأرخت عينيها كقطة مهجورة ثم أجابت: «هذا السلاح لبابا، أحمله لأني أخاف من التنقل وحدي. كما إني أعيش وحيدة بعد وفاة والدتي، ولا أستطيع البقاء في البيت من دون حماية خوفا من اللصوص» وتنشقت كأنها تحاول منع خروج الدموع فتراجع الرجل حائرا في أمره. لم تكن تكذب في معظم ما قالته لذلك تجلى الصدق في نبرتها، وأثارت شفقتهم ومشاعرهم، ففي النهاية هي مجرد صبية أمامهم.

تدخلت نور قائلة: «الفتاة لم تفعل شيئا سيئا، نصف الخلق هنا يجولون بأسلحتهم»

فوافق على مضض وقد ظهر لها أنها تحسنت في دورها كزهراء وقبل الدخول إلى المصعد أرادت أن تستعيد أسلحتها فأوقفتها نور قائلا: «قطعا لا، هذه الأشياء ستبقى بحوزة أبي فواز» وقصدت رجل الأمن: «هذا المكان آمن فلا داعي للخوف»

ظلت عينا الصبية مصوبة نحو مسدس بريتا غالي الثمن الذي سيبيت في صندوق ما من دون عناية واستقلت المصعد وهي تتحسر على قطعتها الثمينة.

*******

تفرقت مكاتب مجهزة على مساحة مفتوحة كل أربعة منها شكلت طاولة دائرية بأسطح بيضاء لامعة، وقد علقت صور لمجموعات من المتطوعين مع أناس تعلو على محياهم السعادة، وزين المكان بلوحات ملونة ووجوه مبتسمة ترافقها شعارات عن مستقبل أفضل، ورتبت في بعض الزوايا أصص نباتات صناعية. عجت المكاتب بالحركة ورنين الهواتف يتعالى مع أصوات العاملين، كان البعض يلقي نظرة عليها من بعيد وهم يتهامسون. تحاشت الفتاة صاحبة الوردي النظر إليها وابتعدت مع رفيقتها وهي توشوش لها في أذنها.

لم تبالي زهراء بهم فقد دخلت عرين الأسد. نقبت ببصرها أرجاء المكان وقطعت رواقا يفصل بين شقتين. في الجهة المقابلة افترش البهو بأثاث صالون قديم يقابل شاشة عرض مسطحة، وبيانو افترشت له سجادة، أمامه شرفة تطل على الشارع. لكن ما أثار انتباه الصبية هو المكتب الذي توسط المكان، خلف زجاج نافذته الكبيرة كانت فدوى تتحدث مع رجل يرتدي بذلة رسمية داكنة. تجلس على نصف كرسي جامعة ساقيها إلى الجانب وتحرك يديها بشكل خجول. ارتدت قميصا حريريا أبيضا قصير الأكمام على حد الكتفين ووضعت قلادة ذهبية حول عنقها.

لم تستطع زهراء أن تسمع شيئا من خلف الباب فاتجهت نحو الشرفة واقتربت من حافتها، فقد كانت النافذة الثانية للمكتب قريبة منها، وصلت إليها همهمات الرجل لكن لم تكن واضحة، فصعدت فوق الحافة ودنت من النافذة أكثر محاولة استراق السمع… «إذا اقتربت فقد تعلقين على حافة النافذة ثانية» التفتت هلعة، فقد كان الشاب الأشقر يقف خلفها عاقدا ذراعيه وأكمل وهو ينظر إلى الشارع في الأسفل: «أو ربما تقعين»

جمعت خصلات شعرها إلى الوراء وقالت: «لقد كنت أحاول أن أحصل على مشهد جميل للبلدة من هنا» ثم نظرت إلى الشارع المزدحم بالسيارات وإلى العمارة الرمادية التي تسد الأفق.

– «إن الآنسة نور تبحث عنك» وأشار إليها وهي تحثها على المجيء، ارتعبت من أنها تسعى لتوكيل مهمة أخرى إليها.

دخلت إلى قاعة تحولت إلى غرفة للطعام تزاحم داخلها أكثر من عشرين شخصا يحومون حول موائد مستطيلة في صخب. قالت نور مفسرة: «نتناول الطعام معا حين نعمل لساعات إضافية» وأجلستها على أحد الكراسي، توزعت صحون من المجدرة على المائدة وكؤوس الشاي، وقد كان الوقت ملائما بما أن الجوع كان يقصف بها.

غيّر تيم مكان جلوسه إلى جوارها وقال: «ما حدث قبل قليل كان مذهلا، أخبريني أتجدين استخدام هذه الأسلحة؟» لم ترد على سؤاله الغبي، ملأت صحنها من المجدرة، والتمعت عيناها حين لمحت قطعا من الكيك بالشوكولا وسط الطاولة، لاحظ تيم ذلك فمد لها قطعة فقد كان يتصرف بلطف زائد، قال: «لديك صوت جميل، أتعلمين ذلك؟» لم تعلم لما هذا الأحمق يحاول التقرب منها إلا أنه سايرته: «أحلم في إنشاء فرقة موسيقية…»

ردت بلطف: «فكرة جميلة..» فسعد بردها وسرح يتحدث عن أحلام النجومية التي تراوده، سرحت بنظرها حول الطاولة وقاطعته قائلة: «هل هؤلاء كلهم متطوعين؟»

أجاب: «منهم من هو متطوع وناشط» وقدم تيم تعريفا لكل شخص على حدا وأخذ يثرثر من دون توقف. حاولت حفظ الأسماء ورؤية من يشكلون خطرا لكنهم كانوا مجموعة من الأشخاص بقصصهم النمطية. فممن تذكرت أسماءهم؛ جون محامي وكان عضوا في الائتلاف السورمادي قبل أن ينضم للحركة، أما الذي يجلس قبالته، ياسر ذو الشعر الطويل واللحية غير المشذبة، كان صحفيا ومراقبا في مرصد حقوق الإنسان والتجأ لتركيشا عدة سنوات. على الجهة الأخرى، ديمة الحلبي أيضا كانت في تركيشا وتدير إذاعة خاصة لها، وأحمد كان مقاتلا في البداية مع مليشيات المعارضة قبل أن يهرب إلى الجوردن ثم إلى مصراوة وبعدها إلى الجزاير ليستقر بجلمانيا. هؤلاء هم من علقوا في ذاكرتها من كثرة الأسماء ومسارات حياتهم لكن شيئا واحدا مشتركا فيما بينهم وهو ألا أحد منهم عاش على أرض الوطن طوال الحرب الأهلية ربما عاش بعضهم هنا ببدايتها لكنه لم يطل البقاء.

وقف سلام خلف تيم وضربه على قفاه قائلا: «أيها الثرثار الأحمق، لم تخبر كل من هب ودب عن الآخرين» ثم سحب كرسيا وجلس بجانب زهراء: «أرى أنك على راحتك يا آنسة، نحن نرحب بالجميع فالضيف يظل ضيفا فكما قال الرسول من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، حتى وإن كان لا يستحق»

فردت: «وقال أيضا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»

تنحنح قائلا: «فمك السليط لا يجيد سوى الهجوم»

– «إذن احمد الله أني أهاجم بلساني الآن بدلا من قبضتي»

اقترب أكثر وقد فاحت منه رائحة أسوأ من تبغ السجائر: «لو لم تكوني امرأة لأذقتك قبضة الرجال الحقيقية»

– «كم أرغب في أن أراك تحاول بدل الاختباء بحجة سخيفة» كور قبضته فتدخل تيم ودفع بقطعة كعك نحوها وكأس شاي إلى سلام مهدئا الأجواء.

ألقت نظرة إلى سامي الذي جلس في الزاوية بالطاولة المقابلة، كان يتفحص هاتفه منعزلا عما حوله، ساورها حدس بأنه كان يتبعها عند الشرفة، فلما رآها تنظر إليه أشاحت ببصرها بسرعة.

سألت تيم عنه قائلة: «أأنتما مقربان؟»

هز كتفيه: «ليس كثيرا، لقد التقينا قبلا في فرنشا مرات قليلة»

قال سلام بتهكم، راشفا من الشاي بصوت مسموع: «إنه مجرد لقيط، يقال إن أباه أجنبي وغير معروف، بمعنى أنه ضائع الجينات والهوية والعرق، ليس بإمكانك أن تطلقي عليه عرفا أو جنسية أو صبغية محددة» وأطلق آهة ساخرة

رد تيم: «الأمر ليس هكذا، قيل إن أمه أنجبته خارج إطار الزواج»

إذن فهو لقيط حقا، صفة مناسبة لمخبر، والتهمت قطعة الكيك في مضغة واحدة. قامت بجولة حول أرجاء المكان لكن تيم لم يتركها لحظة واحدة كان يتبعها كالجرو، فقررت أن تبحث أكثر عند حلول الليل إلا أن أغلب العاملين قضوه في العمل. 

افتتح بيت البركة للزوار صباحا، تكلفت زهراء بالمساحة المخصصة بالملابس، تساعد الزبائن وتجيب على أسئلتهم، كان يُصعب عليهم فهم عملية الكوبونات والنقاط فتقوم بشرحها كل مرة بابتسامة.

عند الانتهاء من انتقاء بضاعتهم، يُقدم للزبائن المغادرين أكلة مجانية وقد جهزت في الباحة الأمامية كراسي وطاولات وبالقرب منها مراجيح وألعاب مخصصة للأطفال. صدحت الأغاني مرافقة ضحكات الأولاد وصيحاتهم. انتشر أعضاء الفريق بستراتهم البنفسجية ليحافظوا على سيرورة العمل كما خطط له، كانت نور تجول من بقعة إلى أخرى تتأكد من أن الجميع يقوم بمهامه الموكلة إليه، في حين كانت فدوى تقابل بعض الزبائن وتسأل إن كانت التجربة قد أعجبتهم.

أقفل المتجر أبوابه على الساعة الرابعة مساء بعد انتهاء لائحة المستفيدين الذين حصلوا على الكوبونات، فقد كان يوما تجريبيا لتعميم الفائدة على شريحة أكبر من المحتاجين. نظفت زهراء الباحة وأدخلت الطاولات مع مجموعة من الشباب. كان دور زهراء المؤدبة صعبا لكن النهار مر سريعا وقد شعرت بأنها قامت بإنجاز الكثير حتى وإن ولم تحقق شيئا كبيرا من مهمتها الأصلية، فالبارحة أرسلت ما وجدته مهما لمعاون الأسدي، ولم يكن أكثر من بضعة أسماء وموعد الافتتاح.

كانت نور في الداخل تحصي البضاعة وتدون ما يلزم من بضاعة، أعادت تثبيت غطاء رأسها مشمرة عن ذراعيها ومن حولها ينقص عدد العاملين الذين أخذوا استراحة في الخارج. قالت لها زهراء: «لقد أكملنا تنظيف الباحة، أفي حاجة للمساعدة؟»

– «ما شاء عليك مجدة، مجدة» وقرصت خدها ممازحة، «فلتأخذي استراحة، لم يتبق لي إلا أن أتحقق من الطابق الثالث» وصعدت الدرج حاملة مذكرتها التي لا تفارقها.

وقبل أن تخرج، أخذت زهراء علبة سكر وقعت على الأرض وما إن وضعتها في مكانها على الرف حتى ارتفعت العلب والقوارير في الهواء، للحظات كل شيء صار في الهواء ثم أظلم المكان.

*******

سلام

II013

هناك في الجوف العميق بين العروق إلى الوريد الذي يتصل بالقلب مباشرة وعلى يمينه الأنفاس الصاعدة والنازلة، هناك في تلك البقعة الوسط يسكن طيفها غارق لا ينادي باسمه لا يتخيل قسمات وجهه لأنه يريد أن يعيش، أن يستمر في الحياة ولكل قدره ونصيبه، فلما العتاب ولما الحسرة فكل شيء يصل إلى نهايته.

كانت له فتاة يحبها منذ زمن…

تأكد سلام من جيبه ثانية يتحسس الخاتم بين طياته وقد غلبه الحماس ليسمع ردها، فأحس بالحرج من نفسه ورفع رأسه إلى السماء المتلونة بدرجات من الوردي، حاول أن يمنع نفسه من الابتسام من شدة اللهفة. وتحت شجرة دللها تشرين فكساها بلون الخريف الكستنائي لمحها تختبئ لكي تفاجئه، تسلل من خلفها وأطلق صرخة ممازحا. قفزت من مكانها ثم انقلب فزعها إلى ضحكات هيسترية من الاثنين معا لكن علت الخيبة ملامحه حين علم أن لن تخرج معه اليوم، فوالدتها منعتها.

ابتسمت وقالت عابثة: «أعدك بأني سأعوضك بموعد آخر»

– «بالتأكيد ستفعلين، لييك عنترة لا يستطيع العيش من دون ليلى» وقبل أن تغادر أمسك بمعصمها وسحبها نحوه بلطف وقال لها: «لقد اشتقت إليك» توردت وجنتاها وقد كانت عيناها ترقصان من الارتباك والخجل وقالت: «ماذا تفعل يا سلام؟»

أخذ الخاتم من جيبه ووضعه على إصبعها النحيف قائلا: «إنه يناسبك تماما» ضحكت بصوتها الرقيق وقد احمر وجهها أكثر، سمعا خشخشة قادمة فقالت: «ربما هي أمي، علي الذهاب» وحين ابتعدت خطوات توقفت وعادت إليه لتطبع قبلة خفيفة على خده وغادرت مسرعة وعيناها الخجولتان تنظران إلى الأرض.

كانت خطواته في طريق عودته كخطوات رجل ثمل ورأسه معلق في الهواء.

كانت تراسله كل ليلة، يجافيه النوم وهو يقرأ رسائلها في شغف، كانا يعرفان عن بعضهما كل شيء، تخبره بتفاصيل يومها ويحكي لها عن نهاره أيضا. طالت فترة خطوبتهما لأزيد من عام، كان سلام يحاول إيجاد عمل ثابت ليستأجر شقة أكبر ويؤثثها وهي كانت تنتظره بصبر.

لكن بعد فترة لم تعد تتحدث معه كما كانت تفعل، يراسلها فتختصر كلامها، تجيبه برسالة مقتضبة، أدرك أنه جعلها تنتظر طويلا. صار العمل متوقفا بعد توتر الأوضاع في المدينة واجتياح المظاهرات كل ركن فيها. اصطبغت جدران المحلات الموالية بألوان الراية السورمادية؛ أحمر، أبيض وأسود والنجوم الخضراء في الوسط، هل كان مواليا؟ لا. ثائرا؟ كلا. صار يعمل بأجر لدى كل من أراد نقل شيء، ما هو هذا لا يهم.

في تلك الليلة الطويلة لم ترسل خطيبته شيئا وبدلا من ذلك اتصل والدها أبو نورة لينبئه بالفاجعة.

اُختطفت الشابة في وضح النهار حين كانت عائدة من منزل أحد صديقاتها، قيل إنها عصابات مسلحة، انتظروا أياما… بحثوا في كل مكان وسألوا كل من استطاعوا. لا أثر، لقد تبخرت ثم وصلت أخبار من المختطفين يطلبون الفدية، كل ما عرفوه أنهم من التنظيم الإسلامي الذي أخذ ينتشر والذين يحبون قطع الرؤوس. سقطت أم نورة في غيبوبة وأبوها المعدم من أين له بذلك المبلغ الخيالي. هب سلام من مكانه واختفى أسبوعا كاملا وعاد يوم الجمعة، باع كل ما عنده والذي لم يسدد حتى نصف ما يطلبونه وحين لم يكف باع كليته، شرف خطيبته أغلى من أي شيء آخر.

ذهب حيث أمره الخاطفون عند الطرف الجنوبي للمدينة، وقفت سيارة ترجل منها شخص ملثم ومسلح، «أين المال؟» «أين الفتاة؟ لن أعطيكم شيئا حتى أراها» «أتريد أن تموت؟» ولاحت فوهة البندقية أمام عينيه، في الوقت نفسه علا صوت مكابح سيارة عناصر الأمن الذين لا يعلم سلام كيف وصلوا، اهتاج المسلح فسحبه معه بكل ما لديه وهو يصرخ: «يا ابن الشرموطة أنت تعمل مخبرا أيها الحقير؟» «أقسم بالله ليس لدي أدنى فكرة، لا أعرف من أين جاؤوا»

صار سلام في الصندوق الخلفي للسيارة التي انطلقت بسرعة جنونية وأصحابها يتبادلون النار مع الأمن إلى أن استطاعوا الإفلات.

في إحدى القرى التي صارت تحت سيطرة الدواشع، احتجز سلام في قبو، أخذوا المال وثيابه وجلدوه لكي ليعترف بما يعرف وهو كان يردد: «أحلف بالله لا أعلم شيئا» ثم يردد اسمها يخبرهم أنه يبحث عنها، ومرت أشهر ظل فيها محبوسا في الظلمة ومع كل طلوع شمس يقول هذا اليوم سيقطعون رأسي ولا يفعلون لأن لديهم أشياء تشغلهم وفي الليل ينادي باسمها فإن كانت محبوسة هنا أيضا فلربما تسمعه.

بعد خمسة أشهر وإحدى عشر يوما حين رمى فتى الطعام وعاء من العدس البائت كانت إلى جانبه امرأة منقبة، امتزج سواد ثيابها بعتمة القبو الرطب. دفنت بعض الليرات في يد الفتى وقالت: «فلتعد بعد عشر دقائق»

ظن سلام للحظة أنه يتخيل، كان صوتها مألوفا له وتأكد حين قالت له: «كيف حالك؟»

– «أهذه أنت؟ حمدا لله» ثم اقترب أكثر منها وغير مصدق ما ترى عيناه، صاح: «هل آذوك؟ أخبريني أقسم بالله سأقطع يد كل من يمسك بسوء حبيبتي» وحين حاول أن يمسك بيدها أبعدتها وقالت: «أنا آسفة لأني تأخرت في الرد عليك، لم أكن أعلم أنك ستأتي إلى هنا لتبحث عني»

أجاب بحماسة وابتسامة واسعة: «ماذا تقولين؟ من أجلك سأقطع البحار والجبال، سأفعل ما لم يفعله عنترة لحبيبته ليلى»

ردت بنبرة أحس فيها بجفاء وبرودة: «سلام الحقيقة أني… لقد وجدت ما أريد هنا، الله أراد هدايتي وفتح عيني لطريق الحق، يمكنني أن أطلب من زوجي أن يساعدك إذا أردت الانضمام، كل ما عليك هو مبايعة الخليفة وأعلم أنك شخص فطن»

– «توقفي هنا، أظنك قلت… زوجك؟»

خفضت رأسها المحتشي بالسواد وأجابت: «فلتسامحني لأني لم أكن صريحة معك منذ البداية، لم أعرف كيف أخبر أحدا بهذا، التقيت بأبي عدي بعد سنين طوال، معه وجدت من أكون بعدما كنت ضائعة، هنا أشعر بأن لوجودي فائدة. كان علي إخبارك بشيء قبل أن أختفي لكني لم أستطع، أنا آسفة حقا»

– «لم… يختطفوك؟»

– «كلا، من قال لك هذا؟ لقد أتيت إلى هنا لأشارك في أعظم شيء سيحدث، هنا سنبني دولة الإسلام الحقة، سلام لو أنك تعلم ما يفوتك، فلتعد لرشدك وسأساعدك لتصبح واحدا منا»

خرس سلام وكأن لسانه أصبح ثقيلا وأمسك بجانبه الأيمن، لقد بعت كليتك أيها الأحمق، «سلام…» ثم تنهدت وأضافت: «أظن أن هذا كان كثيرا عليك، أرجو أن تتفهم ما حصل. فلتفكر فيما قلته لك، ولتخبرني بما تود أن تفعله، لكن لن يخرجوك إن بقيت مع القوم النُّصيريين. سأعود لزيارتك بعد يومين»

لم يشعر بالوقت وقد وقفت أمامه من جديد، تمنى لو استطاع رؤية وجهها ثانية أراد أن يتأكد أنها هي نفسها، خطيبته اللطيفة التي كان يعرف. «سلام، هل فكرت فيما قلته لك؟»

– «أريد العودة للديار هل يمكنك على الأقل أن تخرجيني من هنا، هذا رجائي الأخير منك»

وبعد صمت وجيز أطلقت تنهيدة وأجابت: «سأرى ما يمكنني أن أفعله»

وذات ليلة وتحت جنح الظلام فتح أحدهم باب القبو، تبعه سلام بحذر إلى أن صارا في السطح، لم يستطع تحديد ماهية المكان الذي حبس به بدا أشبه بقرية أشباح. أشار عليه الرجل أن يمضي إلى خلف السياج وسيجد شاحنة ستحمله إلى أن يصل إلى الطريق الرئيسية. كان السائق يقف في الانتظار كما قيل له والشاحنة تنفث الدخان لكن رآها كانت تقف عند السياج تختلس النظر.

لا يعلم ما حصل له، تلك الأفكار التي استعمرت رأسه في عتمة الليل لأيام طويلة وجلده الذي لا يزال يحرق من آثار السياط، انطلقت الشاحنة مغادرة ووقف هو أمامها:

– «لماذا عدت؟ أتعلم كم بذلت من الجهد وكم خاطرت لأرتب رحيلك من هنا؟»

– «أريد أن أرى وجهك، أريد أن أتأكد أنها أنت»

عادت خطوة إلى الوراء وردت: «هذا لا يجوز»

فانطلقت من فمه ضحكة عصبية: «لا بأس، أحترم رغبتك هذه، فقط أخبريني بشيء واحد، متى غيرت رأيك حول خطبتنا؟»

– «لقد حدث الأمر بسرعة، الخطأ ليس منك أبدا»

– «حسن… حسن… وهذا الرجل زوجك أفضل مني»

– «سلام أرجوك…»

– «منذ متى تعرفان بعضكما؟» ضمت يديها المغلفتين بقفازين أسودين في توتر، «لما كذبت علي؟»

– «أنا لم أكذب، ظننت أن أبا عدي قد مات حين وافقت على الخطوبة، لكن حين عاد وأخبرني عن قصته وعما رأى… أنت لا تعلم أن هنالك أحداث أعظم تجري. لقد سهرت ليال وأنا أفكر لم يكن قرارا سهلا أبدا» ليال لم تكن له أدنى فكرة عما يجول في خاطرها

– «لقد خدعتني وخدعت أبويك المسكينين»

– «لم أستطع الاتصال لم يكن هناك وسيلة، لم أقصد خداع أحد»

– «إذن لم بقيت محبوسا في ذلك المكان أياما وأياما»

– «سلام فلتغادر قد يكشفنا أحد»

– «بالبداية شعرت بالذنب وبالسخط لأني لم أستطع…»

– «…سلام أرجوك…»

– «…إنقاذك شعرت بأني مجنون…»

– «…سلام توقف…»

– «…لقد خدعتني وأنا ظننتك امرأة شريفة…»

– «…سلام…»

– «…ليس أنك غادرت دون أن تقولي الحقيقة بل ذهبت لتتزوجي واحدا منهم…»

– «…سلا…»

– «…أيتها الخائنة!» حينها فقط شعر بيديه اللتين أطبقتا على عنقها لكنه استمر كذلك إلى أن أطلقت يدها ذراعه الصلبة وارتخت نحو الأرض ميتة.

لا يزال الليل يخيم على الساحة الخالية هناك، ولا شيء هنا يتنفس غيره. شعر بذراعه تؤلمه، تركت أظافرها خدوشا عليها، كاد أن يزيح عنها غطاء الوجه لكنه تراجع خوفا مما سيرى تحته. وضع يديه على عينيه اللتين تحرقانه، أنفاسه سريعة والدم يضخ بجنون في عروقه. رفرف طائر بالقرب منه ووقف فوق السياج، كان غرابا يحدق فيه بعينيه كاللؤلؤ الأسود تلمعان من دون ضوء في ليلة مظلمة. إن بقي دون حراك سيجدونه ويقتلونه، فليفعلوا، سيقطعون رأسه، فليكن، فنادى صوت داخله: لا تكن أحمقا، فلتقف يا سلام. شد السياج بيديه ليقف، لا يعلم كم تبعد الطريق الرئيسية من هنا، ولا يعلم أين هو. ألقى نظرة إليها، الجو بارد عليها هنا لم يستطع تركها في العراء هكذا، حملها على ظهره وشق طريقه في مسار عجلات الشاحنة.

حين لاحت الشمس في الأفق كان بالكاد يستطيع جر جثتها التي أصبحت ثقيلة. ماذا سيقول لعائلتها، ماذا سيحدث له، كيف سيعيش بعد الآن… كم اشتهى سيجارة في هذا الوقت بالذات. ربما لا يجب أن يخبرهم بشيء، لا أحد عليه أن يعرف. توقف بقرب من أشجار صفصاف متدلية، قضى نصف النهار يعد حفرة في التربة الطرية، حملها برفق ثم وضعها بالحفرة ورقد إلى جانبها. كانت السماء صافية شديدة الزرقة وفسيحة، أحس براحة وارتخت عضلاته المتوترة.

لقد أحبها بصدق ثم كرهها إلى حد الغثيان والآن ترقد بجانبه جثة هامدة، نعم إنها مجرد جثة الآن يا سلام. رمى التراب عليها ووضع صخرة على رأس القبر. لقد غسل عاره وعار عائلتها وهكذا سيمحو اسمها، إذن لما لا تزال تسكن وجدانه الأسود، لما يرن صوتها إلى الآن…

كفر توما، غرب شمال حلبا أيار II021

هو مجرد إنسان كان طبيعيا ولم يعد كذلك منذ أن تلوثت يداه بذكرى منسية، وانقطع صوت التي نسي اسمها على صوت طقطقة عالية…

طغى طنين حاد على سمع سلام وتراءى له خيالات لأشخاص يجرون فزعين ولهب برتقالي برّاق يسحبه إلى عالم حار وخانق ثم تعالى الصراخ والصياح وسط نيران متشتتة هنا وهناك وأكوام من الدخان تتصاعد منها. في لحظة كان جالسا على الكرسي يدردش أمامه كؤوس شاي وفي لحظة أخرى كل شيء في القاعة صار في الهواء وذهب النور.

جاءت هزة ثانية فضم ساقيه ووضع يديه على رأسه كوضعية جنين في بطن أمه لتقليل خطر الإصابات أو هذا ما سمعه في برنامج ما. وضع كمه على فمه حتى لا يستنشق الكثير من الدخان، لم يتبق من الحجرة الكثير فقد تسلقت النيران الرفوف وأخذت تلتهم ما حولها بنهم شديد.

لعن الساعة التي وافق فيها على هذا العمل، كان رفقة وسام الذي خرج ليجلب قنينة ماء فيما هو بقي في الداخل يرشف الشاي، الله يعلنك يا وسام ويلعن الشاي تبعك.

اتجه باحثا عن الدرج فقد كان عالقا في الطابق الثالث، خيل إليه أن أحدا يتحرك في إحدى الزوايا، أصاخ السمع خلف حسيس النار. كان هناك صوت سعال شديد قادما من القاعة الداخلية. تخطى الحطام ومن بينها أشلاء بشرية لكنه تماسك متجاهلا الخوف الذي يدب في صدره والصوت الذي يطن في رأسه بأن يسرع في الخروج.

اتجه إلى الرواق قرب رف ساقط، كانت نور متكئة على الحائط عالقة تحت حجر اسمنتي وقد اجتاحتها نوبة ذعر. اقترب منها هامسا: «نور، هذا أنا، سأخرجك فلا تقلقي». ترقرق الدمع في مقلتيها لرؤيته وانفجرت أساريرها في مزيج من الفرحة والهلع، استجمع قوته ودفع الحجر عنها، أسفله تورمت ساقها المكسورة فربطها بقطعة قماش وحمل المرأة على ظهره، وقبل أن ينهض صاحت مشيرة إلى شعرها: «الشال إنه… يسقط» حتى في موقف كهذا كانت خائفة من أن تظهر شعرها للغرباء، ساعدها على تثبيته قائلا كأنه يتحدث مع طفل: «انظري، لا شعرة ظاهرة»

سارع في البحث عن مخرج، فقد تحول المتجر إلى متاهة من الحطام والدخان الأبيض الذي يعمي البصر. عندما مر من محاذاة أحد الرفوف الذي ليزال واقفا، خُيل إليه أنه سمع أزيزا غريبا، لكن سلام تجاهله ومضى قدما مستجمعا ما بقي لديه من طاقة فلم تكن المرأة التي يحملها على ظهره خفيفة الوزن كما تبدو عليه، وفجأة صاحت نور مطالبة إياه بالرجوع إلى الخلف بسرعة لكن لم يسعفهما الوقت حتى انفجرت علبة أسلاك كهربائية وانطلقت الشرارات الضوئية تتراقص في مرح مع هزة انفجار عنيفة.

ارتمى سلام إلى الحائط وقد شعر بضلوعه وكأنها ستخرج من مكانها إلا أن غريزته جعلته يحمي نورا بذراعيه، كانت تصرخ وازداد عويلها لما أبصرت جثة رجل مجهول. كان مسجى على الأرض، وقعت عليه ثريا فانغرس الزجاج في أمعائه ولم يترك له مجالا للنجاة.

كون الركام المشتعل جدارا يسد عنهما منفذ الخروج، نظر سلام إلى ألسنة النار حولهما وقد علا أجيجها تلتهم بنهم كل ما تصل إليه وبالقرب منه بعض الأسلاك تصدر أزيزا تهددهم بأن الوقت ليس في صالحهما. إنك أحمق يا سلام، ها أنت ستموت على يد الدواشع، سيكون ضحية إرهاب لا وزن لها، على الأقل لو كان أوروبيا، لأشعلوا عند صورته شمعة ولفوها بطوق من الزهور في ساحة نظيفة أنيقة.

سحب سيجارة مشعلا إياها ونور إلى جانبه تبكي فحولت عيناها الذاويتين عنه تندب حظها وضمت يديها تدعو، أضحت الرؤية أمامهما صعبة والتنفس أصعب، أغمض عينيه مستسلما لمصيره.

فجأة انبثق ظل قادم من شعلة النار بدا له كملاك الموت يقترب نحوهما ثم أعاد تجميع تركيزه الذي يتسرب منه من رائحة الدخان الخانقة فرأى خيال شخص، فصاح بأعلى صوته في رجاء أن يكون عامل إنقاذ. لكن ما لبث أن توضح الخيال شيئا فشيئا.

غمغمت نور: «زهراء… يا مسكينة علقت أيضا في الداخل؟»

لماذا كلما كان قريبا من هذه الفتاة تقع مصيبة ما، فقال: «من أين أتيت؟ هل أصحابك تركوك هنا كخرقة بالية؟»

اعترى الغضب الساخط وجهها الذي تلطخ بسواد الرماد وردت: «إذا أردت أن تخرج فاتبعني، أنا من أجل نور لا غير»

رمى بالسيجارة إلى الشعلة وحمل نورا على ظهره، ساعدتهما على تخطي الركام وقادت الطريق بهما نحو السلالم، لكن لم يتبق الكثير منها فقد سقط عمود محترق على الدرجات الوسطى وصنع فجوة من الجحيم بالأسفل. حامت زهراء حول المكان فقد انقطع السبيل بها أيضا، تمتمت نور وانساب مزيد من الدمع من عينيها: «لا أستطيع أن أموت وترك ابنتي، كيف ستعيش صغيرتي من دون أم، كيف؟»

– «ستخرجين، بإذن الله ستخرجين» صاح سلام بكلمات لا يصدقها، فقد تجلى له الموت ورأى النتيجة سلفا. سيكتفي الإعلام بذكر الأرقام على شريط إخباري في آخر النهار حين تمر جملة مختصرة جافة مكونة من كلمات كقتلى وجرحى في تفجير وقع بمدينتهم ثم تطوى الصفحة وقد يخطئون في العدد فمثلا سبعة وسبعون تشبه كثيرا ثمانية وسبعين، الفرق بينهما واحد لكن هذا الرقم ستكون حياته التي لن تعني شيئا على هذه الأرض الخربة.

أما الصبية لم تتوقف وأخذت تبحث بين الرفوف والمواد المبعثرة على الأرض إلى أن عثرت على حبل سميك وأمرته بأن يتبعها بلهجة مستفزة، واتجهت إلى نافذة وقالت: «سننزل من هنا»

نظر إليها متسائلا إن كانت تمزح، لقد كانا بالطابق الثالث والذي يبعد عشرة أمتار عن الأرض على أقل تقدير، فقال: «تريديننا أن ننتحر أما ماذا؟»

– «وإن بقينا ننتظر فسنموت من استنشاق الدخان، هذا إن لم نحترق أولا»

– «هذه خطة مجنونة»

– «ألديك حل أفضل من هذا»

فصاحت نور في وجهها: «بالله عليكما نحن سنموت وأنتما لا زلتما تصرخان على بعضكما البعض، طلعوني برا، أريد الذهاب إلى ابنتي، آه يا صغيرتي، آه» وارتمت صوب الحافة وانعقد الحبل بين يديها ونظرت إلى زهراء متسائلة: «أمتأكدة من أنه لن ينقطع؟»

أخذته منها مجيبة: «لا تقلقي هذا الحبل سمكه أربعين مليمترا لن ينقطع بسهولة. يمكنك استخدام كم قمصيك لتحمي يديك من خشونة الحبل» وأخذت تربط الخطاف بالحافة مكملة: «استخدمي يدك اليسرى كدليل ويدك اليمنى للقبض، خذي وقتك، ولا تنسي استخدام عضلات ساقيك قدر ما تستطيعين تحمل من ألم»

تساءل سلام إن كانت الفتاة بكامل قواها العقلية، ترددت نور فجأة عندما ألقت نظرة نحو الأسفل، فقالت زهراء: «سأسبقك، إن تعثرت سأمسك بك»

فأطلق سلام نخيرا ساخرا: «من سيمسك بمن؟» فعبست بوجهه متجاهلة كلامه وردت: «أتريد المساعدة أم لا؟»

فأشار إلى ساق نور: «الحرمة ساقها مكسورة لا تستطيع حتى المشي وتريدين منها النزول على حبل؟ انظري، إذا استطعت النزول، اذهبي واحضري المساعدة ونحن سننتظر هنا»

نظرت زهراء إلى نور فربتت على كتفها: «سلام محق، أتستطيعين فعل هذا؟ سأكون ممتنة لك»

نزلت الصبية بحركات رشيقة وخفة كأن لا وزن لها وقفزت عندما اقتربت من الأرض. مر الوقت عليهما طويلا وازداد سعال نور فمد لها قطعة قماش لتضعها على فمها، نظرت إليه: «شكرا لك على البقاء بجانبي، أعرف أنك قادر على النزول»

أشعل سيجارة ورد: «الأمر ليس كذلك، أفضل الموت على أن أعيش كسيحا»

ولاح الفرج عندما لمحا عاملي إنقاذ ترافقهما الصبية قادمين في اتجاههما. فور خروجها، طلبت نور هاتفا من أحد الشباب المتحلقين حولها متجاهلة جرحها واتصلت بطفلتها، ولم تطمئن حتى سمعت ردها وانجرفت الدموع. عانقتها فدوى تواسيها: «آسفة عزيزتي، أنا آسفة…» وطأطأت برأسها كأنها المذنبة ردت نور: «ليس عليك شيء آنسة فدوى» واحتضنتها أيضا.

وقف سلام في الزاوية وأشعل سيجارة، هؤلاء القتلة الداشعيين، أخذوا الكثير منه ولم يتركوا له مجالا لينسى، ورفع بصره نحو المتجر الجديد الذي لم يتبق منه إلا هيكل اسمنتي محترق.

*******

زهراء

كثيرة الوجوه والأيادي التي ترك عليها الدخان والرماد آثاره وندباته التي تحوم حول زهراء. توافد عناصر الجيش وطوقوا المكان، وتراص بعض المراسلين لنقل الحدث على أجهزة الإعلام، يتدافعون مع المتطوعين ورجال فرقة الإنقاذ المدني الذين استنزفوا طوال سنوات من القصف والتفجيرات وإسعاف الجرحى. تحولت واجهة بيت البركة الأمامية إلى كتلة متفحمة من الاسمنت، كانت تعي قساوة أبي حمزة لكن لم تتوقع أن يصل بأسلوبه الدموي إلى حد تفجير مبنى خيري، في حين تجاهل عشرات نقاط تفتيش تابعة لجيش التحرير التي تتوزع عبر المدينة.

وضعت فدوى غطاء صوفيا على كتفي الصبية وفتحت قنينة ماء لتغسل وجهها المحموم، وابتسمت لها بعينين حانيتين، شديدتي السواد. هل كل هذا من أجل أن يقتل هذه المرأة؟ كلا لو أراد ذلك لاكتفى برصاصة، أراد أن يرهبها ومن معها وقد أفلح في ذلك وهي الغبية ساعدته في ذلك.

اصطحبتها فدوى نحو سيارة وقالت لأحد العمال: «فلتأخذها مع بقية الشباب واحرص أن يرافقكما عسكري»

فسألتها قبل الصعود: «نور؟ كيف حالها؟»

– «ستكون بخير، لقد تم أخذها إلى المستشفى، فلا تقلقي»

ازدحم المتطوعون بسترهم البنفسجية داخل السيارة وقضوا الطريق في صمت مطبق. شعرت ببعض من حسرتهم، فقد قضوا أياما طوال يخططون ويعملون وكل جهدهم احترق في دقائق معدودة. لكن العتب عليهم أيضا، هذه منطقة قتال وبدل أن يضيع المرء وقته في أعمال خيالية مآلها كقشة بين رمال متحركة، عليه أن يسلح نفسه للمواجهة في أية لحظة. لقد كانوا محظوظين لأن أغلبهم كان خارج المبنى وقت التفجير، وكذلك هي نجت بأعجوبة.

حين تفكر في الأمر، تستوعب أنها كانت مجرد بيدق لأبي حمزة الملعون باستغلال حاجتها لإنقاذ العم. كتمت غيظها وأحكمت قبضة يدها إلى أن شعرت بأظافرها تنغرس في الجلد. ستذهب إلى الأمير المدعي وستغرس خنجرا في وجهه المتيبس.

بقيت زهراء عند مدخل المكتب بعد وصولهم، فلم يعد لها مصلحة في البقاء معهم، لكن اكتشفت أن هاتفها ضاع في الساحة في خضم فوضى التفجير. فكرت في الصعود لتقترض واحدا للاتصال بحسين ووقفت عند المصعد، فاقترب منها الشاب الأشقر وضغط الزر بدلا منها قائلا: «الحقيقة ما حصل قد تجاوز توقعاتي» لم تميز إن كان يحدثها هي، كانت ملابسه نظيفة ومرتبة رغم كل ما حصل في حين أصبحت ملابسها كالأسمال البالية.

فتح باب المصعد فاستقله أولا والتفت إليها قائلا: «لقد كنت أود أن نقوم بالأمر بطريقة أخرى، لكنك خطر كبير حقا» حينها فقط لاحظت العسكريين القادمين نحوها من الاتجاهين وأدركت بعد فوات الأوان ما يقصده، كاد أن يغلق الباب فلمست إحدى جزئيه ليفتح من جديد متمتمة: «أنت… أيها اللقيط» نظر إليها بعينيه الرماديتين الكئيبتين باستهزاء وأزاح يدها عن الباب.

لم يمهلها الوقت للهرب ولم يكن في حوزتها سلاح، أسقطها العسكري على الأرض وقيدها الثاني واجتمع حشد فضولي ليرى ما يجري وهي تشحن كالخروف نحو السيارة العسكرية.

*******

الفصل الأولالفصل الثالث