الهيكل الثالث: بين العقيدة اليهودية والتوترات السياسية المعاصرة

تُعد قضية بناء “الهيكل الثالث” واحدة من أكثر القضايا حساسية في الصراع الديني والسياسي في القدس. تعود جذور هذا المفهوم إلى الموروث الديني اليهودي الذي يتحدث عن هيكلين سابقين بُنيا في عصور قديمة. ويتطلع بعض اليهود، وخاصة من التيارات المتطرفة، إلى بناء هيكل ثالث في نفس الموقع الذي يُعتقد أن الهيكلين السابقين وُجدا فيه. وهو نفس الموقع الذي يُعرف اليوم بـ”الحرم القدسي الشريف”، ويضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ثالث أقدس موقع في الإسلام.

الهيكل الثالث

الهيكل الأول: عهد سليمان

بحسب التقاليد اليهودية، بُني الهيكل الأول في القرن العاشر قبل الميلاد في عهد النبي سليمان، ويُشار إليه أحيانًا بـ”هيكل سليمان”. تم تشييده في مدينة القدس كمعبد مركزي للدين اليهودي، حيث يُعتقد أنه احتوى على “قدس الأقداس” الذي كان يضم تابوت العهد، أهم رموز العقيدة اليهودية.

كان بناء الهيكل الأول فخمًا وضخمًا، مصنوعًا من حجارة ضخمة وخشب الأرز المغطى بالذهب. امتد بطول حوالي 30 مترًا، وعرض 10 أمتار، وارتفاع 15 مترًا، وفقًا للمصادر التوراتية (سفر الملوك الأول 6-7). كان هناك فناء خارجي لتقديم القرابين، يُستخدم في الطقوس الدينية اليومية.

لكن هذا الهيكل لم يصمد طويلاً في وجه الأحداث السياسية والعسكرية في المنطقة. فقد دُمّر على يد البابليين بقيادة الملك نبوخذ نصر عام 586 ق.م، وتم سبي اليهود إلى بابل، فيما عُرف تاريخيًا بـ”السبي البابلي”.

الهيكل الثاني: العودة من السبي وتجديد العبادة

بعد نحو 70 عامًا من السبي، سمح الملك الفارسي قورش الكبير لليهود بالعودة إلى القدس. وبدأوا بإعادة بناء الهيكل عام 516 ق.م. كان هذا الهيكل أقل فخامة من الأول، لكنه شكّل مركزًا دينيًا هامًا حتى مجيء الملك هيرودس الكبير، الذي أعاد تجديده وتوسيعه بين عامي 20 و10 ق.م. ليصبح من أعظم الأبنية الدينية في العالم القديم.

تضمّن الهيكل الثاني أقسامًا مخصصة للكهنة، وساحات عامة، ومذبحًا لتقديم الذبائح، وكان يخضع لإشراف طبقة كهنوتية خاصة. لكن مصيره لم يكن أفضل من سابقه. فقد دُمّر على يد الرومان بقيادة القائد تيطس عام 70 م، أثناء قمع الثورة اليهودية الأولى. أدى ذلك إلى انقطاع تقديم القرابين وتحوّل الديانة اليهودية إلى نموذج عبادي يقوم على الصلاة والدراسة في الكُنس بدلًا من الهيكل.

الهيكل الثالث: حلم ديني أم طموح سياسي؟

رغم مرور قرون على دمار الهيكل الثاني، لا يزال الحلم ببناء هيكل ثالث حيًا في وجدان بعض الجماعات اليهودية، لا سيما التيارات الدينية المتطرفة والحركات الصهيونية الدينية. وفقًا للمعتقدات اليهودية، يُعتبر بناء الهيكل الثالث شرطًا لعودة “المشيح” (المسيح المخلّص) وتحقيق الخلاص القومي والديني.

هذه الفكرة ليست محصورة داخل الأوساط اليهودية فقط. بل تلقى دعمًا من بعض الجماعات المسيحية الصهيونية، التي ترى في بناء الهيكل تحقيقًا لنبوءات “نهاية الزمان” وعودة المسيح الثاني. وهو ما يجعل القضية معقدة من حيث التداخل الديني والسياسي بين أديان مختلفة.

معهد المعبد”: التحضيرات الجادة لبناء الهيكل

من أبرز الجهات التي تعمل بشكل منظم على مشروع بناء الهيكل الثالث هو “معهد المعبد” في القدس. تأسس المعبد في ثمانينيات القرن الماضي. يسعى هذا المعهد إلى إعادة إحياء الطقوس والرموز اليهودية المرتبطة بالهيكل. وقد قام بالفعل بإنتاج أدوات المعبد مثل الشمعدانات الذهبية، والمذابح، والثياب الكهنوتية، تمهيدًا ليوم يُسمح فيه بإقامة المعبد من جديد.

الأكثر إثارة للجدل هو مشروع “البقرة الحمراء“. إذ تؤكد الشريعة اليهودية (في سفر العدد 19) ضرورة ذبح بقرة حمراء. من صفاتها أنها خالصة لا عيب فيها، وحرقها، ثم استخدام رمادها في تطهير الكهنة قبل الدخول إلى الهيكل. ومن دون هذه الطقوس، يُعتبر أي شخص “نجسًا” وغير مؤهل لدخول قدس الأقداس. لهذا السبب، يقوم المعهد بتربية أبقار حمراء في مزارع خاصة، ويخضع كل عجل لفحص دقيق للتأكد من استيفائه الشروط الصارمة.

الموقع المفترض للهيكل الثالث: في قلب التوترات الدينية

تكمن العقدة الأساسية في موقع الهيكل المزعوم. وفقًا للتراث اليهودي، يُفترض أن الهيكلين السابقين بُنيا في نفس الموقع الذي تقوم عليه اليوم قبة الصخرة، داخل المسجد الأقصى، في ما يُعرف بـ”جبل الهيكل” لدى اليهود و”الحرم القدسي الشريف” لدى المسلمين.

أي محاولة للمساس بهذا الموقع تُعد اعتداءً على ثالث أقدس موقع في الإسلام، بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة. لذلك، فإن أي تحرك، سواء رمزي أو فعلي، نحو بناء الهيكل يُقابل برفض واسع النطاق في العالم الإسلامي، ويُعتبر تهديدًا واضحًا للوضع القائم في القدس.

محاولات متطرفة واقتحامات رمزية

على مدار السنوات الماضية، شهدت المنطقة العديد من الاقتحامات التي نفذتها جماعات يهودية متطرفة إلى باحات المسجد الأقصى، تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، فيما يصفونه بـ”حقهم في زيارة جبل الهيكل”. هذه الاقتحامات غالبًا ما تؤدي إلى توتر شديد واندلاع مواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال.

وقد أشار بعض الحاخامات المتطرفين إلى ضرورة إزالة المسجد الأقصى وقبة الصخرة بالكامل لبناء الهيكل في موقعهما، مما يُعد تجاوزًا خطيرًا لكل الأعراف والمواثيق الدولية، ويُهدد بإشعال حرب دينية في المنطقة.

البعد السياسي والديني

لا يمكن فصل مشروع الهيكل الثالث عن البعد السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فبالنسبة للفلسطينيين والمسلمين عامة، يُعد المسجد الأقصى خطًا أحمر لا يمكن التفاوض عليه، وهو رمز للهوية الدينية والوطنية. بينما ترى بعض الجهات في إسرائيل أن بسط السيادة الكاملة على “جبل الهيكل” هو جزء من استكمال المشروع الصهيوني.

ورغم أن الحكومة الإسرائيلية تتبنى رسميًا سياسة “الحفاظ على الوضع القائم”، إلا أن غضّ الطرف عن نشاطات جماعات “جبل الهيكل” والمعاهد الدينية المرتبطة بها يُثير تساؤلات حول الأجندات المستقبلية للدولة.

خاتمة

قضية الهيكل الثالث ليست مسألة دينية فحسب، بل هي مزيج معقد من العقائد، والسياسات، والتاريخ، والتطلعات المستقبلية. وبينما يرى البعض في بنائه تحقيقًا لنبوءات قديمة، يراه آخرون تهديدًا مباشرًا للمقدسات الإسلامية وللسلام في المنطقة. وما بين المعتقدات الدينية والتحولات السياسية، تظل القدس قلب الصراع، وعنوانًا مستمرًا لصراع الهويات والسيادة والإيمان.