
زهراء
ريف إيبلا الشمالي 10 أيار II021
انطلق الميكروباص وعلت زمجرة المحرك على إيقاع دوران العجلات غير المنتظم، فيهتز على أثره هيكل العربة الرديء. توقف بين فينة وأخرى عند حواجز التفتيش العسكرية التي تملأ الطريق الممتدة على سبعة وثمانين كيلومترا، تزين جنباتها مجموعة من الأحراش وشجيرات قصيرة وأحيانا أكواخ قروية مختبئة خلف أغصان الكرم. ماذا كانت الكلمات يا ترى؟ أمالت الصبية زهراء رأسها نحو زجاج النافذة، ففي الأيام الأخيرة لازمها لحن تهويدة قديمة من دون أن تستطيع استنباط كلماتها، ومستسلمة لرتابة الطريق الملتوية أسدلت جفنيها لدقيقة.
تراءى لها حلم كانعكاس ضوء على الزجاج في نهار ضبابي، كالغمام، آسر وحزين بعض الشيء غير أن العين لا ترى سواه. هدهدت الأم طفلتها تلفها بين ذراعيها، تغني لها أغنية عن الحمام لتنام. تمسكت أنامل الصغيرة بثياب أمها تنصت للتهويدة التي تُعزف على إيقاع نبضات قلبها الحنون ومال رأسها إلى صدرها وغفت… تذكر أنها غرقت في نوم عميق تحت حصن جفون الأم المنيعة، في حضنها الذي يعبق برائحة الأمان.. الحب… لو أنها نامت مئة عام… لو أنها لم تستيقظ يوما… ساعتها سيظل لحن التهويدة يعزف إلى الأبد… يا ترى ما الكلمات؟
فقد ضاعت الكلمات بين صرخات الأرواح النائحة، نادت الطفلة بصوتها المخنوق.. ماما. ابتسمت الشمس على الأجساد المرصوصة ملفوفة بملاء ملونة وخشنة، اهترئ صوفها وتدلت منها الخيوط. ليس هنالك أكفان فالعدد كبير، مقبرة جماعية ستفي بالغرض. لكن الصبية آنذاك لم تر يوما ميتا فلم تكن تفهم معنى الموت، فكيف لطفلة في عمر الزهور أن تستوعب ما حدث فحتى ذلك الشيخ الهرم ظل واقفا أمام العمود كقطعة خشبية بعيون شاخصة، ربما تساءل كيف طال به العمر ليشهد يوما كهذا… نزلت دمعة من مقلتيه وانكمشت شفتاه المتجعدتان وقد انتهى وقت الكلمات…
تحرك النسيم يتلاعب بالملاء، تنزل وتهبط على لحنه الكئيب. انقشع وجه الأم الذي كاد لونه يمتزج مع الغطاء الأرجواني الخفيف. اندفعت الطفلة فرحة.. ماما.. ماما.. لكن من سيجيب. أضحى الحصن المنيع عيونا مغمضة مسودة والحضن الدافئ يدين متصلبتين باردتين… ضمت الطفلة وجه أمها بيديها الصغيرتين تنادي… ماما.. ماما.. ملمسه لا يزال أثره على يديها إلى الآن…
اهتزت العربة بعد تجاوز مطب ترابي وأخفض صاحبها السرعة تدريجيا لتتوقف أمام حاجز تفتيش علقت أمامه لافتة مستطيلة كتب عليها ‘الشرطة الإسلامية’ وتحتها الجبهة الإسلامية التي تسيطر على معظم مناطق إيبلا. نفضت الصبية النعاس عن عينيها واعتدلت على نصف كرسي حيث يشغل النصف الآخر امرأة منقبة برفقة طفل. عم الهدوء بين الركاب وقد تأهبوا عندما طُلب من السائق ركن الميكروباص إلى حاشية الطريق. أخذ ضابط باستجوابه والرجل يجيب بأدب باحثا بين أغراض صندوق تحت المقود عن أوراقه الرسمية ورخصة التنقل بينما صعد ضابط آخر يتحقق من المسافرين واحدا تلو الآخر.
كان رجلا فارع الطول، له بطن منتفخة تدل عن قلة ممارسة الرياضة إلا أن ذراعيه المشعرتين تبرزان قوة في العضلات المشدودة والكتفين الواسعين، على أحدهما ترقد بندقية روشية نصف أتوماتيكية من طراز آكا 7ب، السلاح المفضل بين الجهاديين لخفته وسرعة طلقاته. زين المقاتل وجهه بلحية سوداء منتوفة كحاجبيه العابسين وعقد شماخا على رأسه لتحميه من حرارة الشمس في عز الظهيرة.
أمر بضعة من الركاب بالترجل للتحقيق معهم أكثر عند الحاجز، كانوا مجرد أناس غير محظوظين سيضطرون لدفع رشوة لاستئناف رحلتهم. وصل الدور عليها فمدت الهوية، ورقة مهترئة ذات حواف ممزقة وقد تبللت بالماء عند خطوط الصورة الشخصية ففسرت قائلة: «هذا ما لدي، فقد دمر منزلنا وضاع كل شيء، والحمد لله تبقت هذه سالمة… إلى حد ما»
تمعن المقاتل في الورقة كأنه يريد استخراج شيء سحري منها وتمتم: «تاريخ الازدياد، ليس واضحا تماما» وقربها إلى عينيه محاولا فك الحروف التي اختلط حبرها مع بعضها البعض في ريبة: «ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
– «الدراسة» سبب نظيف ولا يثير كثيرا من الأسئلة، فلا شيء يقف في وجه العلم حتى الحرب. تفرس الرجل في وجهها، خشيت أن يكتشف شيئا فتغيير الصورة الشخصية كان الأمر الأصعب.
– «زهراء نيسان، نصرانية…» نطق بالكلمة كأنها سبة تخرج من فمه: «أتيت بمفردك؟ أين ولي أمرك؟»
– «العائلة كلها بإيبلا وأنا سألتحق بهم بإذن الله تعالى» تفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها، حافظت على ثبات أنفاسها قدر الإمكان حتى لا يظهر أي تشوه تحت العباءة، بالتأكيد لن يطلب بتفتيش امرأة من العوام، لو أنها استطاعت تغيير الديانة إلى سنية لكان هذا أفضل لكن لم تستطع العبث بالورقة أكثر.
أعاد الورقة قائلا: «استري شعرك يا بنت الناس» مشيرا إلى غطاء شعرها الذي انزلق ومر إلى الراكب الذي خلفها. عدلت الشال وثبتت طرفيه حول عنقها عاقدة ما تبقى إلى الخلف، لم تكن معتادة على هذه الملابس، فالعيش كالعوام متعب حقا. تحققت من الساعة على هاتفها وقد اضطرت كباقي الركاب إلى الانتظار ساعة أخرى قبل أن ينطلق الميكروباص من جديد، هذه المرة نحو المنطقة الحضرية. ابتدأت بخيمتين لبائعي القهوة والمأكولات الجاهزة. أغلب المحال مغلقة تعلوها منازل قصيرة القامة، معظمها يتكون من طابقين ويسود جدرانها الأصفر الرمادي. لا وجود للحدائق المنزلية وتكاد النباتات أن تكون منعدمة بين الشوارع وقد تناثرت الأزبال مع أوراق الشجر على حواف الطريق.
كثيرة اللوحات الإعلانية التي تحاول إقناع شعب السرمد بالبقاء ببلدهم، كلوحة تضع الخيار بين سترة نجاة و’جُعبة’؛ وهذه تعني السترة العسكرية وخط إلى جانبهما سؤال بالخط العريض: ‘أيهما تريد تلبس يوم القيامة؟’ لقد نسوا وضع حرف ‘أن’، لكن الدقة في التنفيذ كانت دائما أسفل القائمة في هذه المناطق.
تسعى الجبهة جاهدة للحصول على تأييد الحاضنة الشعبية لكن طرقها الفجة في تحصيل الجبايات وتطبيق القانون بالقوة غذت الكره المتنامي ضدها في نفوس العوام من الساكنة الذين يعيشون تحت وطأة الفقر والذل فأفضل الأجور لا تتجاوز ثلاثين دولارا للشهر، كانوا عالة لا يقاتلون، لا يغيرون من حالهم شيئا فقط يتذمرون ويشتكون لأي جهة إعلامية تزوروهم عندما لا تجد موادا لعرضها خارج أوقات الذروة، وكل أحلامهم تتلخص في الهروب نحو أوروبا.
أبطأ السائق من سرعته عند قنطرة تمر من فوق نهر القاسي وتوغلوا أكثر نحو الشمال الغربي وصولا إلى معبر الجلاء فلاحت جموع غفيرة من الناس متحلقين حول مدخله ينتظرون. قالت امرأة لزوجها وهي تحدق من النافذة: «أخبرتك أن ننطلق باكرا، هكذا سنعلق هنا إلى أن يحل الظلام»
فأجابها صارخا: «هل هذا خطئي أيضا؟ لم أجد وسيلة نقل إلا أن بعد أن طلع النهار»
– «كْواه؟ نومة بلا قومة، أليس البارحة كان ابن عمك مسافر؟ أنت الذي رأسك كالصخر لم ترض أن نرافقه»
أمسك برأسه وصاح من جديد وقد تبينت لهجته الشامية التي تدل على أنه نازح من الجنوب عكس زوجته الشمالية الشابة: «الله صبرني معك، لَييكِ براميل النظام وذبح داشع أرحم لي من السباب الذي يخرج من فمك»
شاركت الصبية الزوجة مخاوفها فهذا الحشد المنتظر أكبر بكثير مما توقعت. ركن السائق في المحطة المؤقتة فتدافع الركاب إلى النزول. تثاءبت بعدما مست قدميها الأرض ومددت يديها في الهواء إلى أن سمعت طقطقة المفاصل المتعبة من الجلوس وقد انسلت إلى أنفها رائحة المازوت ممزوجة برائحة روث الدواب التي تتضوع في المكان.
من هنا ترتسم المدينة كئيبة الملامح بمبانيها المهجورة التي تعوي كلما هبت الرياح، وقاسية الطبع في مياه النهر الضحلة وصخوره التي ترسم له مسارات متعرجة كأنها تحاول التمسك بمياهه كيلا تفلت من قبضته. انتشرت الحشائش بين ضفافه، تتشابك كخيوط الذهب في جهة وتنحني وتنكسر باستسلام في جهة أخرى تحت أقدام المنتظرين لدورهم، وآخرون افترشوا الأرض من كثرة الانتظار الذي يشغل كل حيز في حياتهم.
تقدمت زهراء نحو الصف المشوه وقد تسابق الناس على أخذ الدور وتراكم بعضهم على بعض كخلية نحل لكن شتان بينه وبين النحل المنظم. كلما رفعت يدها لتلتقط الرقم الذي يمده صاحب المكتب المختبئ خلف الزجاج، يفاجئها أحدهم بخطفه في مناورة لم تشهدها في أعتى المعارك أو تدفعها امرأة جانبا فتصطدم بآخر يصيح في وجهها بأن تبتعد عن الطريق. أدهشتها قوتهم وعيونهم الجاحظة، لو أنهم يستخدمون نصف هذه الحماسة في القتال لربحوا الحرب منذ أمد بعيد.
فارتمت زهراء بكل قوتها نحو الزجاج ومررت يديها من الثقب لتخطف قصاصة ورق ثم تملصت من الجموع وبكل خطوة تمد ذراعها أولا ثم تخطو إلى أن وجدت نفسها خارج الكومة البشرية فأخذت نفسا عميقا من الهواء النقي وتفحصت الرقم المعطى لها: مئتان وسبعة وأربعون.
أطلقت آهة ساخرة، لقد كانت ساذجة حين اعتقدت أن بإمكانها الدخول بالطريقة التقليدية، قامت بجولة سريعة حول المكان وعادت تنظر إلى الحشد الذي يقف بينها ويبن الباب، العيش كالعوام مزعج حقا، عضت على شفتها راغبة بأن تدخل مندفعة وتطيح بأي أحد منهم وتنتهي من كابوس الانتظار هذا، ثم رأت شيئا لم يخطر على بالها للحظة، رجل شيخ يلقي التحية على عامل بالمعبر ثم مرر بسلاسة وهو يسلم عليه نقودا، أوه كيف لم أفكر في ذلك؟
ألقت التحية على العامل، رجل عبوس متوسط العمر بوجه سمين لزج ونبتت عليه تجمعات من الشعر الأسود والشائب على ذقنه، ارتدى تحت سترة برتقالية مخصصة للموظفين قميصا قصير الأكمام، مفتوح الأزرار من الأعلى حيث يطل زغب صدره متلبدا والأزرار السفلية تستميت لتشد كرشه المدلوقة إلى الخلف حيث ترنح المسدس في جرابه. لم يعرها اهتماما وبتوتر مدت بعض النقود محاولة إخفاءها تحت كمها فقال: «ماذا تريدين؟»
– «لدي حالة طارئة وعلي العودة قبل موعد الحافلة»
– «أنت ما عندك أبوك ولا أخوك يستروك؟»
تفاجأت من ردة فعله، هل لا يقبل الرشوة كما اعتقدت أم أنه لا يقبل الرشوة من النساء، فأجابت: «الله يرحم الوالد من زمان وما عندي أخ»
فتنهد بحسرة قائلا: «إيه والله على البلد التي صارت كلها نسوان» لوح بيده خلف ظهره وأشار إليها بعينه ففهمت قصده وأعطته بعض الليرات التركيشية فلا أحد يقبل الليرات المحلية بعد تدهور قيمتها، فقال الكهل: «الله يلعن أمريكانا وأشراريل، بسببهم صارت كل المعاملات بالدولار» الفاسق يريد رشوة، وبالدولار أيضا؟ سحبت خمس دولارات فعض على شفته قائلا: «ثمن البرميل ارتفع إلى خمس دولارات، الله يلعن أمريكانا على هذا العمل، الواحد فينا يلزمه برميلين لكي يعيش»
فكرت للحظة أن تسحب مسدسه المتدلي وتفرغه بين عينيه غير أن يدها ابتعدت عنه وسحبت النقود المنكمشة وعدت عشرة دولارات كاملة. خبأ المال تحت حزامه وقال: «اليوم الحرارة مثل حرارة جهنم هذا الجو لا يناسب حرمة صغيرة مثلك، تعالي معي»
تمتمت وهي تتبعه: «فلتحترق في جهنم بإذن رب العالمين»
– «أقلت شيئا؟»
– «الله يحفظك ويحفظ أولادك بإذن رب العالمين على طيبة قلبك وسعة صبرك» ورفعت يديها إلى السماء مكملة: «آمين»
– «تجيدين الكلام، أهلك عرفوا كيف يربونك» وأخذ قصاصة الورق الذي عدل عليها رقم الدور وورقة الهوية أيضا، «أخبريني شيعية أنت؟» فهزت رأسها بالنفي واطمأنت فهذا عنى أنه لم يتمعن في المعلومات الشخصية على الهوية كسابقه وأكمل: «الحمد لله، كما يقولون كوني يهودية ولا تكوني شيعية أو نُصيرية، على الأقل لو أنك يهودية لذهبت لأشراريل الذي أصبح البلد الحر حسب ما يقولون، إنه آخر الزمان إيه والله، والقيامة ستقوم عما قريب. أنا أهلي يريدونني أن أتزوج بنت ناس، سنية تخاف الله، متزوجة أنت؟»
فهزت رأسها نفيا مستغربة من السؤال وقال: «لست متزوجة؟ أفضل شيء أن تجدي رجلا يصونك ويحميك» ثم تنهد بصوت عال وأضاف: «هذا الزمن صار صعب إيه والله» وضغط على آلة صدئة تصدر صوت محرك شاحنة قديمة وأخرج ورقة طبع عليها الختم، وعندما حاولت أن تأخذها منه صدها قائلا: «لما هذه السرعة؟ تعلمين علينا التأكد من بعض المعلومات، فهناك أناس، الله لن يسامحهم على فعلتهم، يأتون بأوراق ثبوتية لأشخاص آخرين، والتي تكون في أغلب الأحيان لأقاربهم الذين توفوا منذ وقت قريب… إيه والله على زمن!»
كان هذا الأحمق محقا من دون أن يعلم، فكل ما يبتغيه هو أن يماطل. وعلت ابتسامة لزجة شفتيه وهو يحاول بخبث التقرب إليها حتى وهي على هذه الحالة، إنها ترتدي عباءة سوداء عريضة وتغطي شعرها، ووجهها يتصبب عرقا من شدة الحرارة، ليس هناك أسوأ من العيش كالعوام كالعيش كأنثى في هذا المكان.
سايرته وفي خيالها تجول أفكار عن كيفية قتله، أفضلها أن تسحب الشال الطويل وتلفه حول عنقه، لن يتطلب الأمر أكثر من دقيقة، أثناءها سينبش الرجل بأظافره أطراف القماش وفي الهواء حتى تنقلب عيناه الدائريتان القبيحتان إلى بياض. وجاءها الفرج عندما ناداه زميل فأعطاها الورقة لامسا ظهرها من الأعلى نحو الأسفل بلطف مقزز.
وأخيرا وجدت نفسها داخل المدينة.
أقيمت عمليات ترميم في ظل وقف الأعمال القتالية، أصلحت بعض مرافقها ومن بين العمارات وعلى الأرصفة تراص الباعة المتجولون وأصحاب المحال يعرضون سلعهم ويصيحون بتخفيضات حصرية. التقط أنف زهراء رائحة لذيذة في الأجواء دغدغت شهيتها فاشترت سندويشة فلافل وشراب عرق السوس الذي ليس له في مثيل في روي الظمأ، وحفنة من المكسرات، وخمس قطع من حلوى البسبوسة حتى أن البائع سألها إن كانت ذاهبة لزيارة العائلة من كثرة ما تحمله من الطعام، فاكتفت بالابتسامة وتناول قطعة من الحلوى، ربما اقتنت الكثير لكن قد تمر ساعات قبل أن يظهر الهدف.
اختارت إحدى العمارات ذات أربع طوابق ودخلت كأنها تملك البناية، كان عند المدخل بواب عجوز أشبه بجثة هامدة، عيناه ناعستان وأذناه منشغلتين بالراديو وكأس من القهوة يرقد بين يديه. وعند أسفل السلالم، توسد طفل نائم كيسا أسودا ممتلئا بعلب المحارم التي يبيعها، وقبل أن تصعد وضعت سندويشة الفلافل وقطعة من الحلوى أمامه، فقد يستفيق جائعا، فهي تعرف ألم الجوع.
انتشرت بقع بنية جافة عند عتبة باب السطح وفاحت رائحة العطن من مجرى صرف في الزاوية وقد نبتت من ثقوبه نبتة برية، وتراكم الغبار بين أواني قديمة صدئة مرمية في الأرجاء. كل هذا دل أن أحدا لم يصعد إلى السطح الصغير منذ مدة طويلة وقد أكد الصرصور المنقلب والذي صار يابسا كقشة رأيها.
أغلقت الباب بإحكام، نزعت الشال الطويل أولا ومسحت جبهتها، فقد ارتفعت حرارة الطقس فجأة هذه الأيام وحل أيار هذه السنة بموجة حر غير طبيعية، منبئا بصيف حار وطويل. خلعت العباءة ورصتها جانبا أسفل الكيس، فتَحْتها تمنطقت زهراء بحزام جلدي علقت عليه قسمي البندقية الأمريكانية ولوازمها، إلى جانب مخزن الذخيرة والمنظار.
وبدأت بإعداد منصة الإطلاق، جمعت أجزاء البندقية وعدلت مسار الرصاصة بتعيير النقطة الحمراء للمنظار حتى يلتقي مع محور السبطانة بعشر سنتيمترات. وضعت أسطوانة سوداء على زجاج المنظار للتخفيف من لمعانه فقد يؤدي انعكاس الضوء للكشف عن موقعها ثم تفحصت صورة الهدف على هاتفها.
كان الأجر مرتفعا خلافا للعمليات السابقة، ومن أجل رجل عجوز لا غير، لم تحصل على اسمه ولا تعرف ما عمله، إذ يكفي أن يرسل المستأجر طلبه مع أبي سلمان، مرفقا بالصورة والموقع. لابد أنه أغضب الأشخاص الخطأ، طوال فترة انتظارها لم تبعد عينيها عن الموقع الذي يبعد كيلومترا ونصف وهي تمضغ الطعام بروية.
من السطح امتدت السماء إلى ما لانهاية، أطلت على التلال الخضراء التي تحتضن مدن وقرى محافظة إيبلا وشوارعها، الجديدة منها والقديمة، العالية والمهدمة، بينها أزقة متشعبة وطرق مزدحمة وأخرى خالية مهجورة. تركت الحرب آثارها على أجزاء منها لونته بالرمادي الشاحب امتزج بخضرة ربيع قصير، لكن هذا لم يمنع السكان بأن يغرسوا شتلاتهم على النوافذ وفوق السطوح ترافق الغسيل وخردتهم التي لا يستطيعون التخلي عنها.
وخلف سور من الآجر الأحمر، يحيط بأرض معشوشبة تناثرت على أطرافها شجيرات برتقال، علا الغبار من عجلات سيارة سوداء فخمة، توقفت في المكان من دون أن يغادرها أحد. قربت زهراء عدسة المنظار أكثر لتر من في داخلها، كان هناك رجلان في الأمام وآخر يجلس في المقعد الخلفي من ملابسه يبدو أنه رئيسهما. وبعد لحظات دخلت سيارة كاديلاك زرقاء، فترجل سائق السيارة السوداء أولا وفتح الباب الخلفي لسيده، كان رجلا قصير القامة بشعر كستنائي خفيف، وظب سترته ثم أزال نظاراته الشمسية.
أما السيارة الزرقاء فقد خرج سائقها أولا وقام بنفس الشيء إلا أنه ساعد سيده العجوز على النزول. وقف منحني الظهر واضعا كفيه على عكاز خشبي مصقول. تزاحمت التجاعيد في وجهه الدميم وتضعضعت ثنايا الجلد بينها، يتوسطها أنف معقوف كبير تحته شارب أبيض مرتب، أضفى مع الحاجبين الكثين وقارا وهيبة. كان يرتدي سترة بيضاء عريضة وسروالا رماديا يصل إلى منتصف حذائه الييطالي.
نظرت زهراء إلى صورة الهدف مرتين على هاتفها، مرفقة باسم بدون لقب: كنعان. هرشت شعرها في حيرة، تساءلت لما أحد يريد قتل رجل في عمره، فنوبة قلبية وشيكة ستفي بالغرض، لكن ما شأنها فهي في حاجة إلى المال. موضعت رأسه بمركز العدسة، وبما أنه عجوز لم يكن يتحرك كثيرا.
وفي لحظة رفع بصره إلى الأعلى في اتجاهها ونظرة مريبة في عينيه المبيضتين.
أبعدت عينها عن المنظار وجلة ثم جابت ببصرها في زوايا السطح وأرهفت السمع خوفا أن يكون أحدا يتعقبها. لا تكوني سخيفة، فقد تهيأ لها ذلك بالتأكيد.
صبرت أكثر وراقبته يتبادل مع رفيق موعده حديثا الذي يبدو سريا ليقيماه في موقع كذاك. كان رفيقه ذي البذلة السوداء المخملية ينفخ في السيجارة الكوبية، مرة يقهقه ومرة يدور حول نفسه رافعا يديه أما هو فيهز رأسه موافقا ثم يتحدث.
تصافحا وقد بدا أنهما انتهيا من حديثهما، وضعت سبابتها على الزناد وقبلت البندقية هامسة: «أنا واثقة بأنك ستؤدين دورك على أكمل وجه» كانت زهراء تصيب الرأس دائما، تصوب نحو الهدف فتأخذ شهيقا وبلمسة ناعمة على الزناد عند الزفير تنطلق الرصاصة في المسار الذي حددته.
وانفجر دماغ العجوز متطايرا على هيكل السيارة في دهشة من معه. وظبت أغراضها بسرعة وأعادت المكان إلى ما كان عليه دون ترك دليل على وجودها فيه وغادرت سعيدة لحصولها على نقود سهلة كهذه.
*******
سلام
قيل إن الاسم هوية الوجود، فإذا ابتغى إنسان نسيان ما لا يُنسى، فليس أمامه إلا رمي الأسماء بين نفايات الزمان كما رمى بذكراها، تلك التي لن يذكر اسمها. لن يصف نفسه بشاعر أو حتى متعلم، فآخر كتاب اضطر لمطالعته كان من المنهج الدراسي في آخر سنة من المتوسطة، قبل أن يرسب في الامتحان ويتخلى عن الدراسة من أجل مساعدة والده الذي كان يعمل سائقا أيضا.
يعمل سلام مرات في نقل المسافرين وفي أخرى في نقل البضائع، مرة يرافق عرسا وحينا جنازة. ليس لديه الكثير ليخسره ويرضى بالقليل مما يكسبه. يعيش مرتاح البال يكسب رزقه يوما بيوم، ويصل رحمه بزيارة أمه الحنون القاسية وأبيه الذي يحب أبناءه وخردواته بنفس المقدار، أما إخوته فتشتتوا في أصقاع العالم كلاجئين ولم يفكر يوما أن يحذو حذوهم.
رفع المزلاج من سلك خارجي، فقد فقدت الهوندا من طراز 95 مقبض الباب وانبعج إطارها إلا أنها لا تزال تعمل بنفس الكفاءة وتكفيه لجني قوت يومه. اتكأ على مقدمة العربة يمشط شاربه وشعره الأسود الكثيف الناعم وهو يدندن لحن أغنية مصراوية: «الله عليك يا سيدي، قلبك ذاب في يدي» ورتب قميصه بلون الزبدة الطازجة ثم أشعل سيجارة ينتظر ريثما يكتمل عدد المسافرين الذين سيعود بهم آخر النهار.
دخلت الحرب الأهلية عامها الحادي عشر أو كما يسميها الحالمون ‘الثورة’ التي تحولت إلى كابوس بلد بأكمله. قضاها سلام باختيار جهة الحياد وعدم التعمق بأمور سياسية أو وطنية، فهذه الأشياء لا تشبع جوعان ولا تدفئ بردان. كان يتأقلم مع وضعه كلما نزح من منطقة إلى أخرى، من ريف دمشقيتو إلى حلبا ثم شمال حاما ليستقر بإيبلا، وفي كل مرة يبدأ عمله من جديد كأن شيئا لم يكن، وقد كان الأمر أسهل له عكس الأسر التي تملك أطفالا، فقد فضل سلام العيش وحيدا فمن يريد أن يتزوج وينجب في هذا المكان إلا المجنون.
فالحياة في سورمادا كلها عبارة عن صراع للبقاء، بيد أن الإنسان هو الكائن الأول في التأقلم على البيئة المتغيرة، يتغير جلده بإتقان كالحرباء ويصبر على المعاناة كصبر الجمل على عطشه ويظل يتكاثر كالأرانب. الناس تموت بالمئات من جراء عاصفة الأسلحة والجوع لكن هنالك صغار ورضع في كل دقيقة، زواج بالخيم، وزواج قاصرات واغتصاب بالعشرات وزواج الفاتحة وما أسهله من طريقة. خلاصة القول، الإنسان يتكاثر فإن لم يكن بالقبول فبالقوة. هؤلاء الأطفال يكبرون ويتغير شيء ما في حمضهم النووي، جزء يتعلق بغريزة البقاء التي تقوى أكثر وأكثر.
وكثيرون حاولوا شرح الوضع السياسي في سورمادا، محللون وسياسيون وأيضا بائع القهوة الذي أوقف عربته بجانب بائع الفلافل أبي سعد قائلا: «يا أخي في عندك الضبع ضد المعارضة والشيعة ضد السنة، والتركيش ضد الأكراد والتركيش والأكراد ضد الجهاديين والييرانيين ضد السواعدة، وطبعا لا ننس الروش ضد المعارضة والإسلاميين السنة، والأمريكان يدعمون التركيش وأعدائهم الأكراد في نفس الوقت كما يقومون بمحاربة الجماعات الإرهابية… انتظر، أظن أنني نسيت… من لم أذكر؟»
فأقحم سلام نفسه في الحديث: «يجب أن تضع البغلاني في كفة لوحده فهو حليف للتنظيم ومقرب من تركيشا ويعقد الصفقات مع من هب ودب» وأشار إلى صورة البغلاني، قائد الجبهة الإسلامية، المعلقة على إحدى الجدران، استطاع بلحيته أن يضفي بعض الهيبة على وجهه البيضاوي المخنث ولون بشرته التي بلون جلد البغل الأمهق، كانت عيناه الدائريتان تبدوان كأنهما لتلميذ كسول لكنهما تخفيان مكرا صامتا بين رموشه البنية. قاتل مرة أو مرتين بأسلحة تنظيم داشع أو على الأقل من التمويل المخصص له، ثم مدد رجليه وشرب الشاي مع الساسة الأجانب لتكون أكبر حصة من إيبلا تحت سيطرته.
أجاب صاحب القهوة بلهجته الشمالية، فقد كان من سكان إيبلا الأصليين: «البغلاني ليس الحاكم الوحيد هنا؛ ففي أقل من عشرة آلاف كيلومتر مربع من الشمال السورمادي، حشروا عشرات من فصائل المعارضة المسلحة، كل واحد منها يرغب أن يحكم على مزاجه، يتصارعون ويتناحرون فيما بينهم. وبين الحين والآخر يأتي الضبع بجيوشه المستعارة يرمي بقذائف روشية تقتل المدنيين الذين ليس لهم ذنب وسبحان الله، تولد فصيلا معارضا آخر»
فقال أبو سعد: «الضبع يحكم جنوب البلاد بالبراميل المتفجرة والبغلاني يقمع الخلق بالشمال بالبنادق والمفخخات، ما تركوا لنا خيارات، يا إما الضبع يا إما البغلاني، لَييك، لما ليس عندنا حكام آدميين، كلهم حيوانات! حيوانات!» واهتز كل جزء من جسده، صلعته، وجهه وبطنه الكروي كقرص فلافل.
فقهقه سلام مجيبا مشيرا إليه: «إذا كان الشعب حيوان، فلن يحكمه إلا حيوان»
فرفع أبو سعد إصبعه متوعدا: «أمثالك هم الذين خربوا البلد. لَييك، الشعب ميت من القهر تقول عنه حيوان، هيا ادفع ما عليك، هيا»
فأمسك سلام رأسه وقبله معتذرا وقال: «أنا قصدي، إذا كان الشخص ليس قادرا على ثورة، فلما يقيم ثورة، لكن ما العمل؟ الأوائل الذين رفعوا شعارات الحرية، نصفهم مات أو قابع في سجون الضبع ونصفهم الثاني هرب إلى خارج البلاد»
قاطعت امرأة ثرثرتهم ودنت من سلام قائلة: «خاي، أذاهب إلى خربة اللوز؟»
فرد وقد أشعل سيجارة ثانية بولاعته الفضية وأعادها إلى جيبه الخلفي: «نعم أختي، ادفعي وانتظري هنا ريثما يكتمل العدد»
دفعت ثلاث ليرات تركيشية ثم سألته وقد برزت في صوتها بحة أنثوية أضافت جاذبية غامضة حولها: «أنا في عجلة من أمري، ألا تستطيع الانطلاق قريبا؟»
فرفع كفيه مجيبا: «ما في حيلة، هكذا تجري الأمور»
تنهدت ووقفت إلى يمين عربة الفلافل قرب كيس الزبالة. كانت عينه مرة على البائعين اللذين لم يتوقفا عن الجدال ومرة يرمقها من جانب عينه اليسرى وهي تدور حول نفسها منتظرة، رمت بحجر ملاعبة إياه بقدمها في حركة طفولية، فتاة في سنها يجب أن يرافقها أحد.
كانت صبية يافعة بحاجبين مشعثين وعلى جانب وجهها آثار خموش قبيحة تواري تحتها جمالا لم يخف على عيني سلام، كشف الشال المنزلق عن شعرها الأسود الفاحم وانسدل بقصّة ثائرة قصيرة، ناعم هادئ من الأعلى ومتموج عند الأطراف. كانت عيناها بلون الزمرد تشد الناظر إليهما، لوزيتان متحلّيتان بأهداب سوداء كالكحل. واحمر الخدان من حرارة الأجواء فأضفيا على وجهها رونق جورية دمشقية، وزادتها غمازة الذقن جاذبية غامضة. كان لها أنف أفطح لكن متناسق كأنه اقتطع من منحوتة آشورية قديمة، وانكشف بعض من بشرتها القمحية النضرة من عنق العباءة الواسع والتي لا تناسب مقاسها.
كان صاحب القهوة لا يزال يسرد ما سمعه من المحللين على القنوات الإخبارية قائلا: «تنحدر الجبهة وداشع من السلالة نفسها، يعني أن الطرفين يستسقيان من أسس تنظيم الحمض الإسلامي» وهمس خوفا من أن يسمعه أحد: «فالبغلاني ما هو إلا واجهة سياسية للأمير أبو حمزة الأسدي من تنظيم داشع الذي يدعم الجناح العسكري»
فعقب أبو سعد: «ليس هناك من خرب الثورة قدر الدواشع، قضوا على آخر أمل لدى الناس في حل سياسي، انظر إلى ذلك المسمى أبا يزيد أصبح أشهر من علم» وبصق على الأرض مكملا: «الله يلعنه على عمائله الشيطانية»
سمع سلام عن أبي يزيد هذا أكثر من غيره، فمؤخرا يتكرر اسمه عشرات المرات على شاشات التلفزيون بعدما تم القبض عليه من طرف الأكراد.
قال صاحب القهوة: «إيه والله، هذا الرجل المدعو أبو يزيد، فريد من نوعه» واسترسل في حديثه وهو ينش على بضاعته: «روى بعض المحللون أنه تدرب في تالبان وتخرج على يد جهادي معروف. تنوعت الروايات عنه لكن أغربها التي تتحدث على أنه عميل لأشراريل يخدم الموشاد، وأخرى تقول إنه عميل لدى الاستخبارات الأمريكانية وقد عاش في روشيا متخفيا لتنتهي القصة بأن من قبض عليه مجرد شبيه وأن الحقيقي لا زال طليقا»
رد أبو سعد الذي انهمك في إعداد سندويشة فلافل من أجل زبون: «وماذا بعد؟ البلد تراجعت أربعين سنة للوراء، وها هم الأكراد بالشرق يدّعون الديموقراطية، يبذرون الوقت والمال في سجن هؤلاء الدواشع، الكل يعرف أن مصيرهم الإعدام. مثل أبا يزيد هذا، ذبح أولاد الشيعة بالعشرات، قتل مئات الأبرياء في التفجيرات، هذا الإرهابي لا يحتاج سجنا ولا محاكمة، السجن المؤبد قليل عليه، الموت لن يشفي غليل الآلاف الذين تعذبوا من جراء ما فعله أمثاله. مثل هذا المجرم يجب أن يصلب وتقطع يديه ورجليه ويعلق…» ثم بتر كلامه حين رأى كيس زبالته يحترق وبالقرب منه ما يحتاج من بضاعة وزيت فرمى ما بيده وهب مرعوبا ليطفئ النار.
تدخل صاحباه بسرعة وصبوا على النيران الماء بالأوعية المعدنية الكبيرة المستخدمة للخلط والقلي. تفحم صندوق الخبز واحترق جزء من العربة، لم تنطفئ النار حتى أفرغ سلام كل ما في برميل الماء عليها.
أمسك أبو سعد رأسه ولعن حظه ناظرا إلى رزق يومه وقد تبخر في الهواء، فقال بأسى: «الحمد لله على كل حال»
طبطب سلام على كتفه وواساه قائلا: «سيعوضك الله أخي، الله كبير» وأخذ سيجارة أخرى وهم بسحب ولاعته من جيبه لكن لم يعثر عليها في مكانها وبدلا من ذلك وجدها مرمية على الأرض، ثم لمح الصبية تبتعد بوجه غاضب، ولم ترجع رغم أنها دفعت أجرة الميكروباص.
*******
سامي
سجن الحكسة أيار II021
احتكت قطعة من الورق مع الرصيف جرفتها ريح دافئة وصدح مواء قطة كبكاء رضيع في أرجاء الشارع الخالي. نظر سامي إلى ساعته الرقمية التي تبعث بضوء أحمر وسط السواد الضبابي تجعل من وجهه يبدو أكثر كآبة وقد أشارت إلى الواحدة إلا ربعا. انطلقت أصوات الحديد الصدئة للأقفال بتتابع تكسر سكون الليل، نظر الرقيب في كلتا الجهتين ليتأكد من أن سامي قد قدم لوحده وفتشه قبل الدخول ثم حدق فيه بحقد قائلا: «الاتفاق هو الاتفاق، ستقوم بالتخلص من كل الصور»
أجابه سامي بابتسامة فاترة، كان من السهل قرصنة صفحة الرقيب الخاصة على موقع إباحي، متسائلا كيف يمكن للمرء أن يكون غبيا إلى هذا الحد، فألح الرجل في غضب: «أريد أن أسمعها منك»
أجاب بهدوء: «صدقني، لا أنوي الاحتفاظ بتلك الصور المقززة»
تبع الرقيب الذي يمشي بعيدا عن ضوء مصابيح السجن الكبيرة قاطعا الساحة نحو الممر الطويل. مرا من ثلاث أبواب حديدية مدعمة بقفل رقمي يفصل بين كل اثنين مخدع مجهز بالكاميرات ثم سلكا درجا إلى الأسفل. أكمل الرقيب الطريق إلى السرداب المظلم وفتح بابا حديديا آخر بعدما أدخل الرمز السري فاشتعل مصباح من نيون بضوء خافت. كان صوت جزمة سامي عاليا يرن بين الجدارين الذي لا يفصل بينهما أكثر من متر واحد، ومرت من جانبه بعض الجرذان التي تفاجأت بدخوله تهسهس ساخطة.
خشخش الرقيب بسلسلة مفاتيحه وقبل أن يفتح باب الزنزانة الفردية قال: «أمامك عشر دقائق لا غير»
سُمعت صلصلة السلاسل حين خطا سامي إلى الداخل، كان المكان كأنه مستوحى من سجون قصر من القرون الوسطى الأوروبية الذي زاره في إحدى رحلاته المدرسية. ثقل السلاسل يدل على خوف الجميع من السجين الملتحي، نما بعض الشيب حول شعره الملولب الذي يصل إلى قفاه، واختفت ملامح وجهه تحت لحية كثيفة شعثاء.
لم يعره السجين اهتماما، كان جالسا في زاوية من الزنزانة المربعة التي لا يتجاوز عرضها متر ونصف. بقي سامي واقفا قرب الباب فرغم أن الرجل نحيل نحولا شديدا والتصقت أسماله على جسده من أثر التعذيب، لم يستطع مقاومة القشعريرة الباردة التي انتابته وهو قريب من مجرم متوحش مثله ذائع الصيت.
يدعى إياد حسن ولقب نفسه بأبي يزيد بعدما حمل السلاح ضد قوات النظام إلى جانب جيش الثوار، وتطرف في أسلوبه بانضمامه لداشع في العام الثالث للثورة.
– «أرجو ألا أكون قد سببت لك إزعاجا سيد أبو يزيد» لم يعره السجين أي اهتمام، الموقف الذي توقعه سامي والذي سيتغير بعد لحظات، استطرد قائلا: «أدعى سامي صليبا وقد جئت إليك بعرض سيخرجك من هذا الجحر، ولن يكون عليك إلا تقديم معلومات بسيطة عن السلاح الذي تستخدمه أو ما تسمونه» وصمت لبرهة قبل أن يضيف بنبرة أوضح وأوطأ: «المادة البيضاء الشبح»
فحصه السجين بعينيه الغائرتين لثانية ثم عاد ليغمضهما في وهن بدون أن يبدي أي شيء، فأكمل سامي: «هناك شخص مهتم بهذا، مستعد ليقدم لك ما تريد مقابل ما تعرفه عن السلاح» وعم الصمت لفترة أطول مما ينبغي.
– «ألا تود معرفة المزيد عن الصفقة؟ أعدك أنك ستكسب الكثير» عقد ذراعيه وأضاف محاولا لفت انتباه الجهادي: «المادة الشبح البيضاء، أول ظهور لها كان بالسنة الثالثة من الثورة، المكان تل هوى، في هجوم الدواشع على قوات النظام. أو على الأقل كان أول تجربة ناجحة، بالتأكيد هذه أشياء تعرفها مسبقا» وانتظر جوابا أو ردة فعل بسيطة لكن السجين لم يكترث: «مواجهة عقوبة ثقيلة كالإعدام ليس أمرا هينا، لكن العرض الذي أقدمه سينقذك من هذا المصير مقابل المعلومات»
تحركت السلاسل المحيطة بقدمي أبي يزيد ورد بصوت عميق من دون أن ينظر إليه: «اذهب واسأل أحدا غيري يا بني، فأنا لا أعرف عما تتحدث عنه»
– «بل تعرف تماما عما أتحدث، السلاح موجود وأول التجارب أقيمت هنا في سورمادا وعلى يديك» اقترب جرذ مشعر من حذاء سامي فأبعده ووضع يديه في جيبه وقد أصابه الضيق من وجوده في مكان قذر حيث أوصله البحث عن السلاح الشبح، فبعد الحرب الأهلية وتدخل روشيا صارت الأراضي السورمادية ميدانا ملائما لتجربة كثير من الأسلحة الجديدة والتقنيات لتسويقها للدول المشاركة. غير أن هذا السلاح تم رصده أثناء قتال أكثر التنظيمات الإرهابية فصيل ‘أنصار الله’ وذلك على يد قائده أبي يزيد الشامي.
دق الرقيب على باب الزنزانة مشيرا أن وقته شارف على الانتهاء، فقال سامي: «إضافة إلى خروجك من السجن، سيقدم لك أيضا مبلغ لا بأس به ويمكنك المساومة إذا شئت فعميلي شخص سخي جدا، فلما لا تفكر في الأمر قليلا وهكذا سيكون حديثنا مثمرا المرة القادمة»
لم يلق ردا منه وكأنه غير مرئي بالنسبة له لكن سامي يعلم أن لكل شخص بطاقة تفاوض، ترتبط بمعلومة بسيطة حساسة تسهل من التحكم به في نقطة معينة من دالة معلوماته الشخصية. قد لا يمتلك العنصر الأساسي من معادلة أبي يزيد بعد، الذي رغم مواجهته لعقوبة قصوى لا يأبه بطريقة سهلة ليتحرر من سجنه.
دق الرقيب الباب من جديد وبقوة أكبر متوترا، فلم يكن أمام سامي إلا الخروج، وعند فتح الباب، تمتم السجين: «لا تبحث أكثر فلا مصلحة لك في هذا» التفت سامي إليه نحو الزاوية المظلمة ولم يتبين من نبرته إن كانت نصيحة أم تهديدا.
رافقه الرقيب إلى الخارج ثم قال: «إذن؟ لا صور بعد الآن»
مد له ذاكرة الفلاش وقبل أن يمسكها قال: «ستؤمن لي مقابلة أخرى كما اتفقنا»
– «ليس باستطاعتي ذلك بعد الآن، السجين سيتم نقله عما قريب»
– «حقا؟ أتعرف إلى أين؟»
– «الله أعلم فأنا مجرد موظف بسيط»
حسن لم أتوقع هذا، لم تسفر محاولات سامي مع المجاهدين الذي قاتلوا إلى جانب أبي يزيد عن أي خيوط تقربه من مكان السلاح، وها ذا أبا يزيد الشخص الذي يملك المفتاح لإتمام مهمته بنجاح سيفلت منه. فقال للرقيب: «أريدك أن تبحث لي في الأمر»
– «لقد أتممت جزئي من الاتفاق وبيننا كلمة شرف»
سلمه سامي الفلاش قائلا: «معك حق، فالنسخة الوحيدة معك الآن ولكن…الصور لم تكن كل شيء للأسف، تعرف ما أقصد، مقطع الفيديو، الزمان: الخامس عشر من حزيران الماضي، المكان: ملهى أبو العيش. إنك حقا شخص محب للكاميرا»
– «يا ابن الشرموطة…»
عبس سامي في وجهه: «لا داعي للألفاظ القذرة، عليك أن تبذل جهدا أكبر وإلا تعرف ما سيحصل»
خربة اللوز ريف إيبلا الشرقي أيار II021
‘فلتزل الدنيا ولتفنى تنظيماتنا وجماعاتنا ومشاريعنا ولا يراق على أيدينا دم مسلم بغير حق’
رُسمت قولة أمير الجبهة على جدار بأحرف قوطية كغيرها من الشعارات المتطرفة: ‘الجهاد باب من أبواب الجنة’، ‘الديموقراطية دين الغرب’، ‘المرأة كلها عورة حتى ظفرها’، ‘الشيعة أعداء الإسلام’، ‘يحرم حلق اللحية’، ‘العلمانية كفر’، ‘لا يدخل الجنة نمام’، ‘الاختلاط حرام’، ‘تنظيم قاعدة الجهاد معا لتحكيم شرع الله’…
زينت كل شوارع البلدة من جدران البنايات وعواميد الكهرباء إلى لافتات المحال، شعارات لا تنتهي وفي كل مناحي الحياة، كان بعضها أقوال للبواطني، منظّر تنظيم الحمض الإرهابي، لكن مع بداية تلطيف علاقات الجبهة مع العالم الخارجي محي اسمه وخلّف وراءه بقعة ملطخة بالطلاء.
لم تكن مجرد كلمات رنانة وإنما قوانين وقواعد يجب التزامها. لكن عند جني المال كانت الجبهة تجد دائما مسوغا شرعيا كابتكار البطاقة الإسلامية التي يصل سعرها إلى مليوني ليرة، تتيح لحاملها التجول دون استجواب عند حواجز الشرطة الإسلامية. يطيل المرابطون عندها النظر إلى سامي فشعره الأشقر الفضي وكنيته ‘صليبا’ تثير فضولهم بيد أن البطاقة تلزمهم بتركه يمر من دون سؤال.
أوقف سامي دراجته عند مغسل ومشحم ‘الجبل’، يقع أسفل منزل قيد الإنشاء، جزء من واجهته بني بثلاث أنواع من الطوب تبين الفواصل الزمنية لانقطاع البناء أو إعادته، أقفلت النوافذ بالكرتون بدل الزجاج ومن السطح تمتد بعض الكابلات إلى الداخل.
كان رياض في انتظاره، أرخى كوفية مخططة بالأبيض والأحمر على كتفيه وارتدى تي شيرت أبيضا مبقعا بشحم المحركات، تميز بذقن حاد مدبب ومنطقة ما بين العينين ضيقة، ويهمل حلق ذقنه فنبت له شعر غير متجانس يجعل وجه شبيها بوجه الجرذ. وقبل أن يشعل سيجارة عرض عليه واحدة فرفضها سامي بأدب. في عالم موازي كان يمكن إطلاق على رياض صفة مسؤول علاقات عامة لاتساع دائرة معارفه وتشعبها وطريقته في إيجاد قنوات خفية للتواصل.
التفت سامي يمحص الشارع قليل الحركة وقال: «أسيأتي؟»
– «تدخل في الموضوع مباشرة، ألن تسألني عن حالي، عن صحتي؟» ونفث رياض الدخان: «سيأتي فأرجو ألا تغضبه، فلدي سمعة للحفاظ عليها ورأس أريده أن يبقى ثابتا في مكانه»
بعد حوالي ربع ساعة، توقفت سيارة تويوتا بالقرب منهما، نزل منها رجل ضخم الجثة ونفث بلغما سميكا على حافة الرصيف المتسخ. تقدم نحوهما يمشي نافخا صدره إلى الأمام. كان واثقا ليحضر إلى الموعد وحيدا ولم يظهر أنه يحمل سلاحا وبالرغم من ذلك أماط سامي سترته قليلا من الجانب ليُظهر سلاحه المعلق.
ألقى المقاتل الداشعي السلام بلهجة ثقيلة، إنها اللهجة العاشرة إن لم تكن العشرين التي سمعها سامي في أرجاء المحافظة، اختلفت لهجات ولغات سكانها، وتحققت ضمنها أمة عابرة للقارات عنفوانها الحرب والفقر. رغم أن البلدة واقعة تحت سيطرة الجبهة إلا أن مقاتلي داشع كانوا يتحركون بحرية في أرجائها عكس المناطق الأخرى شريطة ألا يظهروا انتمائهم علانية كباقي الفصائل.
دعس رياض على عقب السيجارة وهو يقدم سامي إلى زبونهما المنتظر فرفع الرجل ناظريه قائلا: «هذا هو مخبرنا؟» وأطلق آهة استهجان وسأله: «كم عمرك يا فتى؟»
أجاب رياض بدلا منه مشعلا سيجارة جديدة: «ما يكفي لينبت الشعر على ذقنه. الفتى في حوزته معلومات ستفيدك وبالثمن الذي تريد»
مسح الرجل حافتي فمه بسباته وإبهام يده اليمنى ثم أمر سامي قائلا: «فلتنطق»
رد سامي: «ادفع أولا»
قهقه المقاتل واهتز صدره المنفوخ ثم رد وهو يفتش في جيب سترته الداخلي: «لا بأس، فقد قال الرسول أعطوا الأجير أجره عندما جف أو سيجف…» واختلطت بقية المقولة في فمه فعاونه رياض الذي لم يكن يحفظها أيضا وعيناه على الظرف المكتنز بالمال مرددا: «صدق رسول الله»
مد الظرف إلى سامي لكنه لم يمسكه فأخذه رياض مبتهجا وبدأ يعد الدولارات والسيجارة معلقة في طرف فمه. رغب من تبقى من فصيل أنصار الله البحث عن معلومات تساعدهم لتحرير قائدهم أبي يزيد، فأدرك سامي سبب رفضه للصفقة التي عرضها عليه، فهو في انتظار رفاقه. فقال: «حسب ما فهمت، تريدون طريقة لاقتحام سجن الحكسة»
رد أبو سلمان: «ألديك طريقة للدخول إلى هناك؟»
– «لا داعي للذهاب، فالأكراد عقدوا اتفاقية سرية مع جيش التحرير الوطني وتمت مبادلته ببعض الأسرى»
ظهرت علامات الحيرة على الرجل وكان مصيبا، فلم الأكراد يتخلون عن أسيرة دسمة كالجهادي الكبير أبي يزيد، وضع يده على أذنه اليسرى متظاهرا أنها تحكه فلاحظ سامي ملقط صوت تحت شعره الكث وهو ينتظر الأوامر. سأله بعد أن أصغى لما يقال له: «أتعرف مكانه الحالي؟»
اتضح أن الرجل مجرد واجهة والعقل المدبر يختبئ في مكان ما، لكن سامي أراد أن يتأكد فرد: «يمكنني أن أبحث، بعد دفع أجر بسيط بالطبع»
– «أتسخر منا يا لقيط؟» توقف رياض لحظة عن عد النقود ورفع ناظريه نحو أبي سلمان العابس
قال سامي بصوت هادئ مطمئن: «فلتنظر للجهة الإيجابية، بفضل ما أخبرتك به فلن تحتاج لاقتحام سجن الحكسة، سجن مشدد الحراسة وصعب اختراقه، وبفضل ما سأقدمه من معلومات ستصبح عملية تحرير رفاقكم في متناول أيديكم وهذا ما ستدفع لأجله»
– «تظنني أحمقا يا فتى»
لكز رياض سامي الذي لم يأبه له وراقب سلوك الداشعي قائلا: «هذا عمل إضافي ويتطلب جهدا أكبر، لذلك سيكون الأجر مضاعفا» وانتظر إن كان سيأخذ قرارا من تلقاء نفسه، وفي طرفة عين، انطلقت رصاصة لفحت حرارتها خد سامي الأيسر وأصابت عقب سيجارة رياض الذي سقط على أسفل ظهره مرتعبا وقد تطايرت من يده النقود في الهواء.
قهقه الرجل الضخم قائلا: «ما العمل؟ لقد أغضبتما رفيقي، وأؤكد لكما أن صبره أقصر من قامته» رفع سامي رأسه نحو البنايات البعيدة ثم نظر إلى رذاذ السيجارة التي فجرتها الرصاصة من دون أن تخدش صاحبها، فتبين سبب ثقة الرجل الزائدة الذي لم يحتج سلاحا فمن يحمي ظهره قناص محترف.
قال أبو سلمان: «إليك الأمر، ستتكلم لتستحق أجرك الذي دفعتُه»
لم يتخل سامي عن هدوئه، ربما فاجأته طلقة القناص لكن توقع الأسوأ يوم دخوله إلى سورمادا، رد بنبرة هادئة: «جيش التحرير يفكرون في القيام بمحاكمة علنية لعناصر فصيل ‘أنصار الله’ وسيكون أبو يزيد واحدا منهم»
– «أتقول محاكمة علنية، ما هذا الخراء؟»
– «التفسير المنطقي أن جيش التحرير يريدون التباهي أمام العالم وإثبات قوة سيطرتهم على منطقتهم»
– «أعوان تركيشا اللعناء»
– «ما يهم أن المحاكمة مجرد شكليات والنهاية معروفة» ألقى الرجل نظرة جانبية نحوه مدركا مقصده فالنهاية هي إعدام العناصر، وهكذا تحقق لسامي ما يريد وحان الوقت ليلقي طعمه: «لكن هذا يمنحنا فرصة كبيرة أيضا»
– «ماذا تقصد؟»
– «المحاكمة العلنية ستتم في كفر توما منطقة سيطرة جيش التحرير، وهذا يعني أنه سيتم نقل السجناء»
– «إذن؟»
كان الرجل الضخم صاحب إدراك بطيء فتنهد سامي مجيبا: «هذا يعني أنك لن تكون في حاجة لمعرفة مكان احتجاز رفاقك. كل ما علينا هو الحرص على الحضور يوم المحاكمة»
تظاهر الرجل بالتفكير وهو ينصت لما يقال له ورد بعدها: «ومتى سيكون ذلك؟»
– «مصادري ستحرص على تأمين هذه المعلومات» وقد كان يقصد الرقيب المنحرف
– «إذن أرسل المعلومات، عندها فقط سأدفع لك أجرك الذي تستحق»
ولم يتنظر ردا وعاد أدراجه فانتهز رياض الفرصة ليلتقط الأوراق النقدية المرمية على الأرض، كان رجلا بسيطا يحب الربح السريع ولا يطرح كثيرا من الأسئلة، ساذج بعض الشيء، لكن هذا ما يجعله مناسبا. فقوة المال لا تضاهي قوة امتلاك المعلومات فكل ما يحتاجه المرء أن يجيد استخدامها. لو امتلك معرفة أكبر حول أبي يزيد لكان امتلك ورقة تفاوض أقوى تجعله يلين، حقا ألا يهمه المال؟ فأغلب من قابلهم كانوا من أمثال رياض.
قدم له كأس قهوة داخل مرأبه، وسحب كرسيين قائلا: «لم يكن عليك أن تثير حنقه، اللعب بالنار مع هؤلاء سيؤدي إلى هلاكنا»
جلس سامي قبالته ورد: «لم يكن ليؤذينا، فإنه في حاجتنا» لهذا أزعج نفسه بالحضور من المقام الأول، وأخذ رشفة من الكأس
– «وإن يكن. إنك جاهل يا فتى، أبو سلمان ذاك أقل ما يمكنك الخوف منه»
توقف سامي عن الشرب قائلا: «تقصد القناص»
رشف رياض من سيجارته مطولا ونفث الدخان من ثقبي أنفه الواسعتين: «اسمه علي على ما أظن، من حسن حظي لم ألتقيه لكني سمعت الكثير عنه»
استرعى الأمر انتباه سامي فسأله: «حقا؟ وماذا تعرف عنه؟»
استند رياض إلى ظهر الكرسي وأجاب: «يقال إنه كان فتى يتيما إلى أن تكفل به القائد أبو يزيد، تربى على يديه وتلقى تدريبه تحت إشرافه مباشرة، أظنك سمعت بما حصل لثكنة الروش قبل عامين» ودنا منه دافعا كأس القهوة بمرفق يده: «يقال إنه منفذ العملية. يعرف عنه أنه قاتل محترف من الدرجة الأولى، خبير متفجرات واغتيالات وكما رأيت قناص يصيد طرائده على بعد أميال»
تبادرت إلى ذهن سامي تفاصيل عملية السابع من آب التي استهدفت جنودا من الروش، لا تختلف ظروفها عن باقي عمليات أبي يزيد التي يلفها الغموض والرعب، توقع كثيرا من المبالغات المضافة إلى التفاصيل، إلا أن معرفة المزيد عن هذا المدعو علي قد يقربه من هدفه، وضع سبابته على ذقنه مفكرا؛ إن كان ما يقوله رياض صحيحا فعلي هذا مستخدم آخر للسلاح الشبح. «هل يمكننا مقابلته؟»
– «مقابلته؟ أتمزح؟ لا أحد يعرف كيف يبدو لهذا يسمونه المجاهد الشبح»
– «أليس أبو يزيد المجاهد الشبح؟»
اختلطت في فم الرجل رائحة الدخان برائحة الفم الكريهة وقد تجاوز نصفه الخاص من الطاولة الدائرية الصغيرة مقتربا من وجه سامي أكثر من اللازم وأجاب: «هذا ما يظنه العامة من الناس، أما المقاتلون من التنظيم والجبهة فيعلمون أن أبا يزيد ترك خليفة لا يستهان به، لا بل خطر ذلك الرجل أكبر بكثير» ونفض عقب السيجارة في المنفضة التي لم يتم تنظيفها منذ زمن وأخذ يسرد ما سمع من أقاويل: «فلتسمع هذه الرواية التي لا يعرفها إلا قلة من جماعة الأنصار، اختلف تابعان لأبي يزيد مع علي ذاك، كانا رجلين مخلصين وبسمعة حسنة بين المقاتلين، قيل أن الأمر لم يكن أكثر من نعته بألفاظ غير محببة، أتعلم ما الذي حدث لهما؟ فلتحزر»
وأرغم سامي على الإجابة فقال: «قُتلا»
– «القتل أقل ما يمكن تصوره في هذه الجريمة الشنيعة، في صباح اليوم التالي عُثر على جثتين متفحمتين، رأس كل جثة تفوح منها رائحة الشواظ، المحجرين مسودان، الذي أخبرني قال إنه لم يستطع تناول الطعام لثلاث أيام من هول ما رأى، مع العلم أنه مقاتل عايش من أهوال القتال ما يكفي ليشتد قلبه» وقع رماد من سيجارته على الكأس التي لم يرشف منها من تركيزه وهو يقول: «رغم معرفته للجاني، أبو يزيد لم يفعل شيئا واكتفى بترك علي في حاله»
– «أتعني أن أبا يزيد لا يستطيع التحكم في أفعال تلميذه؟»
هز رياض كتفيه ثم رفع سبابته نحوه قائلا: «لذا أنصحك يا فتى، مهما يكن هدفك لا تعبث مع علي ذاك، لا تعبث مع أي أحد من جماعة الأنصار وإلا لن ينفعك الندم»
كانت نصيحته جيدة لكن مقابلة علي قد يقدم له معلومات باهظة الثمن.
*******
زهراء
تكون الرداء من العباءة، الخمار والطرحة، القفازين والجوارب الطويلة، كلها سوداء اللون تنفر الناظرين. وضعت الصبية الكيس في الحقيبة قائلة في دهشة: «اثنا عشر دولارا؟»
رد البائع بدون مبالاة: «إيه أخي، ألم تر العارضة؟»
كانت العارضة تنصح النساء بالالتزام بالزي الشرعي، استبدلت منذ شهرين بملصق ضخم ملون ومزين بالزهور يثير الغثيان بدل الذي كان مخطوطا بالأسود. «ثمنها يساوي مصروف نصف شهر لعائلة، هذه سرقة» فعاد البائع يشير للوحة الكبيرة، حيث كتب بجانب عناصر الزي الثمن الرسمي حسب الهيئة الشرعية.
لو أنها تعلمت الخياطة لعدلت من عباءة الأم زهراء لكن المقاس الكبير كان مجرد عذر، فحين ترتدي ملابسها تشعر بحضورها أكثر من أي وقت مضى. لا تكوني سخيفة. ورمت بالكيس إلى البائع قائلة: «لن أضيع المال على خزعبلات كهذه»
كان الفقر والعوز بين الناس أكثر انتشارا ببلدة خربة اللوز. قرب المحل تجمع أهل البلدة الفقراء حول شاحنة المعونات، كان هذا طبع العوام، يفضلون التسول بدل القتال. كان أغلب المتجمهرين نساء ملثمات بالأسود يحاولن أن يسرعن لأخذ الدور قبل انتهاء الكمية. سارت على الجانب الخالي الذي تبقى من الطريق فصدمتها طفلة، وأخذت تتسابق مع الأخريات، من صغر حجمها استطاعت التقدم إلى الأمام، ووقفت أمام الموزع مادة يديها متلهفة، لكنه تعدى دورها فألحت الطفلة قائلة: «أنا، أنا، الله يخليك»
رد الموزع بنبرة أبوية: «روحي حتى تتخمري يا ابنتي عندها فقط سأعطيك» فجمعت يديها الممدودتين وأمالت رأسها مكسورة الخاطر، تدافع الناس من خلفها فتراجعت رغما عنها.
كانت متسخة الثياب وحذائها رث من كثرة الاستعمال، قبل سنوات كانت الصبية مثلها إلى أن التقت العم أبا يزيد، اقتربت منها وانحنت إلى مستوى طولها قائلة: «أأنت بخير يا صغيرة؟»
لم تفهم زهراء لما على طفلة بعمرها أن تغطي شعرها أيضا، تعلمت أن النساء يثرن غريزة الرجال لهذا عليهن ستر عورتهن لكن ما الذي تملكه طفلة لتثير رجلا بالغا إلا إذا كان به خطب ما.
سلمتها الاثنا عشر دولارا، فاندهشت الطفلة فقالت لها الصبية: «إنها لك، فاصرفيها بحكمة، حسن؟» ونفشت شعر رأسها كما كان يفعل أبو يزيد عندما يمازحها.
كان على الشاحنة رمز منظمة دولية إغاثية لكن الموزع لم يرتدي شارة أو زيا يحمل الرمز. راقبت تحركاته بفضول في البداية إلى أن لاحظت أن بعض الأكياس التي وزعها أعيد غلقها قبل التسليم. فقامت بتتبعه بالدراجة النارية عندما انتهى إلى أن أوقف شاحنته عند منزل على بعد حارتين.
حمل مع اثنين من معاونيه ما تبقى من حمولة إلى العمارة، داخل شقة في الطابق الأرضي، ادعت أنها ضائعة وسألت واحد منهم عن عنوان اختلقته وألقت نظرة سريعة إلى داخل الشقة؛ كانت مليئة بشتى أنواع السلع التي تحمل رمز المنظمة الخيرية، لمحت بعضا منها قد أعيد تغليفها بعلامات تجارية معروفة. كان الرجل سيبيعها في السوق بالثمن الذي يحدده وخصوصا لسلع مطلوبة كالطحين وحليب الأطفال.
نسيت ما جاءت من أجله وبدلا من ذلك راقبت تحركاتهم طيلة النهار إلى أن وجدت فرصة سانحة للتسلل إلى داخل الشقة. حطمت القفل بطلقة رصاصة، دوى صداها في المبنى غير أن صوت الرصاص أصبح شائعا كصوت محركات السيارات. جالت في أركان الشقة المفروشة وتفحصت ممتلكات صاحبها أما السلع فقد خصصت لها قاعة الجلوس والبهو الفسيح الذي يتسع لمخزون شهر كامل لعشرات الأسر.
جلست على الأريكة تقلب قنوات التلفاز وفتحت علبة بسكويت بالشوكولا. تطلب الانتظار أربع علب إلى حين عودة الموزع مع رجل اتضح من ثرثرته أنه صاحب الشقة.
فتح الباب قائلا: «لن أعطيك أكثر من عشر الأرباح، وإن لم تشأ فلتجد عملا آخر»
دخل الموزع وأجاب: «أهذه هي النخوة يا أخي؟ إني من أتولى القيام بالمهمة الصعبة، يكفيك…» وبتر عبارته حين لاحظ وجودها.
تسلت بنظراتهما المرتبكة لبعض الوقت وهي مسترخية على الأريكة، اندفع صاحب الشقة مهاجما على اللص الوقح حسب تعبيره لاعنا إياه بأقدح الشتائم. سحبت المسدس من جيبها الخلفي بخفة وأصابته بالرأس قبل أن يكمل خطوته الثانية. حاول الموزع الهرب فأطلقت رصاصة أمام عتبة الباب أجبرته على التراجع نحو الداخل ثم أمرته بالجلوس إلى جانبها، سألته قائلة: «لما ليس لديك علبة عصير أو ما شابه؟ من الصعب مضغ البسكويت لوحده لمدة طويلة»
أجاب الرجل فزعا: «من أنت ومن أرسلك؟»
أجابت مبتسمة: «عصفورة حلوة» وسارت أمامه متلاعبة بالمسدس بين أصابعها: «المقاتلون يحاولون الدفاع وتحرير البلدات من…» وهرشت مقدمة رأسها مفكرة: «لا أدري، من الأمريكان والروش، الضبع والشيعة وتطول اللائحة… والشعب من العوام يحاول النجاة ليوم آخر» ولوحت بالمسدس نحوه: «وأنت تسرق بأخبث طريقة يمكن للعقل أن يتخيلها»
وضع يده على فمه راجيا قائلا: «الله يرحم البطن الذي حملك، لن أعيدها، اضطررت لهذا العمل بعد أن باءت تجارتي، والله لن أعيدها»
– «أعلم، سأتأكد من أنك ستقوم بعملك وإلا سأحرق هذا البيت وأنت في داخله المرة القادمة»
وفجرت التلفزيون برصاصة اهتز لها بدنه مرتعبا، التقطته من عنقه وصفعته ليعود إلى رشده وقالت: «ستقوم بتوزيع هذه المعونات لمن يحتاجها وبالتساوي. لن تفرق بين امرأة ورجل، بين كبير وصغير، بين من يلبس الخمار أو لا يلبس فذلك قراره، إنك تعرف من أقصد»
دور عينيه متسائلا فصفعته ثانية: «الطفلة أيها المعتوه»
فأماء رأسه في حركة سريعة: «إيه سأفعل ما تشاء فقط لا تقتلني الله يرحم أبوك»
أطلقته وقالت: «إذا حاولت ثانية أن تستثني أحدا من عباد الله من خير الله فعلي» وأشارت إلى نفسها: «سيقطعك من الحلقوم إلى الخصيتين»
تمتم الرجل فزعا: «علي الداشعي؟»
– «أوه، يبدو أن سمعتي قد سبقتني، إذن فلتنفذ ما أمرتك به، ولا تسلب الناس حقوقهم» تمعنت في عينيه المرعبتين، يقبع بداخله ظل رجل جبان ورمته أرضا، مرت من جانب الجثة الرجل الثاني وتحاشت الدوس على دمائه، وأقفلت الباب خلفها وهي تدندن.
اتجهت نحو محل حلويات يشتهر بالبوظة المعدة منزليا. اختارت نكهات الكريات المثلجة على مهل، ثلاث كرات شوكولا، وواحدة فريزا وأخرى فانيلا. وانكبت على التهام ما في طاسة البوظة من الحجم الكبير، جالسة عند طاولة في إحدى زوايا المحل.
أخفت القلنسوة السوداء كثيرا من ملامحها كما تخبئ خصلات شعرها الذي طال، أصبح التظاهر كفتى أصعب كلما كبرت في العمر، فالملابس الفضفاضة لم تعد كافية لإخفاء ملامحها الأنثوية، ربما سألتجئ إلى العباءة من الآن فصاعدا، فهزت رأسها، سيُستخف بها، ستغدو امرأة في أعين الناس، ستُحرم من حريتها وستحد من تنقلاتها، قد اختبرت الأمر عدة مرات وكان الوضع مزعجا لها إلى حد كبير.
أثار دخول مجموعة من التوانسة إلى المحل انتباه الزبائن أما الصبية فشدت القلنسوة إلى الأمام أكثر. علا صخبهم وهم يتمازحون بلهجتهم المغاربية الخفيفة، ميزت حسين من وقفته المشدودة بينهم ولهجته الغليظة وهو يحاول مسايرتهم، أشارت له بتلويحة قصيرة ليعرف مكان جلوسها.
أسند الشاب العشريني ظهره إلى كرسي وتنهد من التعب كعجوز بعدما تملص من المجموعة الصاخبة، نما الشيب على صدغيه فحباه منظرا وقورا، له عظمتي وجنتين بارزتين وملأت آثار حب الشباب وجهه.
– «كم واحدا سينضم؟» سألته مشيرة إلى المجموعة التي تحلقت حول إحدى الطاولات في وسط المحل مما أدى إلى مغادرة بعض الزبائن المتوجسين منهم، فسمعة التوانسة من الدواشع تثير الرعب في قلوب العوام.
أجاب عاقدا ذراعيه: «أربعة مقابل أجر واثنان مدينان للقائد أبي يزيد» وصمت لبرهة ثم أردف: «أمتأكدة مما تصنعين؟»
تناولت ملعقة محدقة في الإناء وقالت: «إنه الواجب يا خاي»
دنا منها قائلا: «لكن القائد كان واضحا في أوامره، الهرب نحو الحدود التركيشية أأمن في الوقت الحالي»
فحدجته في غضب: «لن أذهب لأي مكان من دون العم، لا يمكننا أن نتركه في الأسر تحت رحمة عملاء الغرب» لو كان أبو يزيد هنا لأنبها على فعل شيء كهذا، تكاد تلمح ملامحه الجادة وهو يحاضرها. فطوال عام تمكن من إرسال رسالة واحدة من السجن لا غير، مفادها أن تمضي مع الأم زهراء نحو مخيم الكرامة والاختباء عن الأنظار، لكن كيف يمكنها الهرب وتتركه وهي تعرف المصير الذي ينتظره. فقبل شهرين تم شنق أزيد من عشرين عنصرا بتهمة الانتماء إلى التنظيم، وكل يوم تصلها أخبار عن أهوال سجن الحكسة وكيف يخرج السجناء جثثا في أكياس من التعذيب وانتشار المرض والإهمال. كانت العملية مخاطرة كبيرة لكن كل شيء يهون إن كانت ستراه ثانية.
تنهد حسين ونظر جانبا قائلا: «إذن ماذا قال أبو سلمان في هذا الشأن؟» فأشارت إلى المدخل حين لمحته آت وهو متأخر كعادته، فعلقت مبتسمة: «ذكرنا القط قام ينط»
اتجه صوبهما وربت على ظهرها مازحا، وفي كل مرة ضربته تطحن عظامها، وقال: «ألا تكبر يا فتى؟ إنك تبدو هزيلا أكثر مما مضى، آخ على جيل الألفية الجديدة كله أقزام»
ردت مازحة: «كوني قزم أفضل من أكون غوريلا»
فضرب أبو سلمان على صدره قائلا: «غوريلا وأفتخر» ثم ارتمى على الكرسي واستحوذ على طاسة البوظة خاصتها وقال: «أرجو أن تكون قد استمتعت بمهمتك الأخيرة؟» قصد عملية اغتيال العجوز، فمن يريد استئجار خدمات علي يتصل بأبي سلمان، ومد الظرف المملوء بالمال قائلا: «ستجد المبلغ كاملا بعد اقتطاع عمولتي وأجرة المخبر»
فقال حسين: «على سيرة المخبر، أتثقان به؟»
رد أبو سلمان: «أثق برياض فهو واحد من معارفي كما أنه خبير في هذا الشأن»
أطلق حسين آهة ساخرة وعقب: «واحد من معارفك؟ بالتأكيد سُمعته ستكون مثل الزفت»
– «وأولهم أنت» ودنا منه متحديا إياه
فقاطعتهما الصبية قائلة ببرود: «يمكنكما قتل بعضكما عندما ننتهي من العملية» وفردت ورقة منكمشة مليئة بالخربشات: «حسب معلومات المخبر سترافق عربة نقل السجناء ثلاث سيارات أمنية. أبو سلمان سيقود مجموعة الاقتحام وحسين ستقود من تبقى لتأمين طريق الخروج أما أنا فسأتولى أمر المتفجرات» وهرشت أجمة شعرها الأمامية مفكرة: «بداية الهجوم ستكون عند مفترق الطرق فعندها ستضطر عربة النقل لخفض السرعة، ستنفجر السيارة الأولى وتنحرف. ثم ستهاجم عناصر من المجموعة الأولى من الخلف، ومن بقي معك يا أبا سلمان سينضم إلي لمحاصرة العربة وفتحها، وهنا يأتي دورك يا حسين، ستعطلهم قدر الإمكان لكيلا يتعقبوننا» ووضعت قبضتها على الطاولة متحمسة: «وهكذا سننفذ عملية تحرير الغراب» وشرعت يديها منتظرة أن يبديا إعجابهما بتخطيطها المتقن.
فقال حسين متسائلا: «من الغراب هنا؟»
هز أبو سلمان كتفيه وقال: «غراب أم دجاجة؟ ما الفرق؟ موعدنا بعد غد بكفر توما على العاشرة صباحا» وقام مودعا إياهما: «علي الذهاب قبل أن تشتاق زوجتي الجديدة إلي»
فقال حسين: «كم وصل عدد زوجات ذلك اللعين إلى حد الآن؟»
فأجابت وقد أمالت رأسها: «أظنها السابعة أو الثامنة، لقد توقفت عن العد. ما يهم أنه عند كل عقد قران يعد لنا وليمة، إننا نستفيد أيضا»
– «تماما، إنه سخي، الخصلة الوحيدة التي تجعلني أتحمله» وأخذ يدق بإصبعه على الطاولة بتوتر وأضاف بنبرة أخفض: «على ذكر موضوع الزواج، ألازلنا عند اتفاقنا؟»
ندت شفتيها عن ابتسامة مصطنعة وردت: «أجل، بعد خروج العم سنطرح الموضوع ثانية» كادت أن تنس عرض زواجه الذي قدمه بعد وفاة الأم زهراء، أغلب الظن أنه قام بذلك بسبب ما تمليه عليه النخوة ولم يشأ أن يتركها وحيدة.
قال والبهجة على محياه: «سنتزوج ونذهب إلى أفغانيا، قريبا سيخرج الأمريكان من هناك ويعود الحكم لنا» حافظت على ابتسامتها، فهي لم تشأ الرفض لكيلا تخسره، فقد كان حسين الأخ الأكبر ورفيق علي المقرب حينما كانا بمخيم أشبال الخلافة لكنه الآن يراها بطريقة مختلفة، تلمح ذلك بعينيه وتجس منه توترا في كثير من الأحيان، لم يعد بينهما ذلك المزاح الصبياني، لقد صنع حاجزا منذ أن عرف أنها فتاة، سبب آخر لتكره هذه الصفة فيها.
كان المساء قد حل وأطل بظلاله على نوافذ المنزل نصف المبني. دخلت الصبية وأغلقت الباب بإحكام وتحققت من النوافذ ومن دون أن يفارقها المسدس وجرابه المعلق على خصرها، فاللصوص ينتظرون سهوة من أصحاب البيوت لينقضوا وينهبوا على ما وقعت أيديهم عليه. انهمكت في تفكيك وتنظيف بندقيتها، فغدا ستذهب للاتفاق مع خبير المتفجرات لتجهيز ما يلزم، وأطلقت تنهيدة طويلة فلو أن في حوزتها الحجر الماسي لما كلفتها هذه العملية شيئا، ونظرت صوب حجرة موصدة ثم رمت ما بيدها.
كانت حاجيات العم منظمة في الحجرة، كل شيء كما تركه، فكلما فتشت بينها أعادت كل غرض إلى مكانه. وبدأت البحث من جديد، لعلها تجد أثرا للمزود. لكن العم أخفى مصدره جيدا فلم يعد يؤتمنها على حجر المادة الشبح فقد خسرت ثقته وخيبت أمله. على صدرها يجثم حجر الحزن والوحدة. أطلقت نفسا عميقا، وأخدت تفتش كل ركن بالغرفة من جديد. أزالت لوح الصوان الداخلي على أمل العثور على مخبئ سري، وضربت الأرضية بقدمها لكن دون جدوى.
غادرت الحجرة نحو البهو وعاد البيت الخالي يرن بلحن الفراغ القاسي. تعلمت الصبية ألا تتعلق بأي مسكن تحل به، من الدير إلى المخيم إلى منازل تفرقت بين بلدة أو قرية جديدة إلا بيت تل هوى…
كان منزلا جميلا، ببوابته المزخرفة ونقوش خشبه المعشق، كانت لها غرفة تطل على حديقة مخضرة طوال العام. حينها كان العم يقضي وقتا أطول معهما حتى أن الأم زهراء تصرفت في تلك الأوقات كالبشر، عكس آخر أيامها عندما تضاعف هوسها وجنونها، فلازال التمثال مكسور الأنف قابعا على الحصير القصبي ينظر إلى الصبية موبخا، يحن إلى صاحبته وقد التفت حوله الشموع الثمانية ودهنها الذائب تصلب بين حواشها. عليّ إزالة هذه الأشياء، بيد أنها تؤجل هذا العمل في كل مرة.
بعد وفاة الأم زهراء، لم تعد تستطع الصبية رؤية ما كانت تراه ولا تسمع ما كانت تسمعه وهذا ما حلمت به، إذن لم تشتاق إلى ذلك، لما؟ لا هذا أفضل بكثير، وهزت رأسها ثانية، وتجاهلت عيون التمثال الحزينة. هي لم تعد تلك الطفلة اليتيمة الضعيفة، ونظرت إلى نفسها إلى المرآة المعلقة، إذن من هذه التي تراها، صاحبة النظرات المحبطة؟ يا ترى من هذه الفتاة البائسة؟
أشارت الساعة إلى منتصف الليل، فرقدت على الأريكة التي في قاع الدار وعانقت بندقيتها، رفيقتها الوحيدة، محاولة أن تنال قسطا من النوم.
كفر توما، غرب شمال حلبا 15 أيار II021
تبلورت الشمس بأشعتها الدافئة، تنعكس على جباه المارة القلائل وتتسلل عبر زجاج السيارات المسرعة. بأعلى السلالم التي تحاذي الرصيف وتطل على الشارع العام، بنيت بين عمارتين سكنتين كانت تؤدي إلى مقهى أغلق منذ زمن، وقفت الصبية تراقب في تأهب والريح تلاعب ثنايا عباءتها السوداء. خلف ظهرها وعلى الجانب الأيمن احدودب الثوب على شكل البندقية المجهزة للتصويب. كانت تعد الدقائق في صبر وتعد العربات التي تتباطأ عند الدائرة الطرقية لتنعطف يمينا ناحية سوق شعبي يبعد مئتي متر عن موقعها ثم ظهرت في الأفق سيارة جيب كركية اللون وخلفها سيارة نقل كبيرة بيضاء تحرسها من الخلف سيارتي تويوتا. ضغطت على ملقط صوت في أذنها وهمست: «رفاق، عملية تحرير الغراب ستنطلق بعد قليل» فرد كل من حسين وأبي سلمان بالإيجاب.
في وسط الطريق تحت جارور الصرف الصحي، يطن هاتف بضوء أحمر في انتظار إشارة من الهاتف قديم الطراز الذي في حوزتها. كانت يداها ترتعشان، هل هي الحماسة أم الخوف؟ اشتد نبض قلبها فأخذت نفسا عميقا، وتجهزت للضغط على الزر وعينها على السيارة الكركية، وفجأة دوى انفجار مدوي قبل أن يلامس إصبعها الزر…
تصاعدت أعمدة دخان سوداء تتلوى كالأفاعي نحو السماء من ناحية السوق، ثم لمحت عربة النقل تتوقف بعيدا عن الدائرة الطرقية والسيارات التي معها تستدير إلى الطريق المعاكس حيث توقفت حركة السير وسط الطريق على وقع دوي الانفجار. شدت على الهاتف في عصبية، فسيارة النقل ستفلت منها، لم تدري أي حظ سيء ليحدث انفجار آخر بالقرب من موقع العملية. ضغطت على ملقط الصوت قائلة: «أبو سلمان، لقد وقع خطأ ما، فلتهاجم الآن» لكن أحدا لم يرد وأخذت عربة النقل تبتعد في الأفق شيئا فشيئا فقفزت من على حاجز السلالم ومضت مسرعة صوبها، فصاحت من جديد: «أبا سلمان أجبني، تبا!» فرد حسين بدلا منه: «أبا سلمان ليس هنا، لقد أخذوه» وسمعت من حوله صوت تبادل النيران، فقالت: «ما الذي يحصل؟»
فأجاب بصوت متقطع: «اسمعيني جيدا، لا تبقي هناك، إنه… إنه أبو حمزة الأسدي»
رمت ملقط الصوت وحطمته بحذائها وهي تعض على أسنانها في غضب: «ذلك اللعين». هبت سيارات العسكر تلوح في الأجواء، فاضطرت الصبية للهرب، التفت حول الأزقة الضيقة إلا أن المكان أخذ يعج بالحركة ورجال الأمن، فنزعت البندقية الظاهرة على كتفها ولوتها في العباءة. استدارت يمينا وشمالا فعثرت على فجوة بين مكبي القمامة فخبأت سلاحها في تردد، واختلطت بالحشود كيلا يلاحظها أحد وقد أصبحت حركة الناس سريعة في اتجاه واحد بعيونهم الجزعة، مر أحدهم بجانبها يصيح: «داشع فجرته»
*******
سلام
أطلق سلام صوت المذياع عاليا، يصدح بأغنية مصراوية ذات إيقاع سريع وتعالت ضربات الطبلة وسط صخب السوق، فقد كان يقع بمنطقة تابعة للمعارضة المعتدلة والموسيقى، أو كما يسميها الجهاديون المعازف، مسموحة. انتشرت عربات بيع الخضر والفواكه، وافترش بعضهم لسلعهم حصيرة بالية ومن بينها يحاول الزبائن والدراجات النارية خرق مسار لهم.
أشعل سلام سيجارته ورأسه يرقص على أنغام الأغنية بينما كان أبو جابر يعد ببطء كل قطعة في الصندوق، يتحقق من الحمولة التي أوصلها إليه. فتوقفت سيارة على ما تبقى من هامش الرصيف المليء بالنفايات كبقايا الخضروات وعلب كرتونية وأطلق صاحبها الزمور ليثير انتباه سلام، فأقفل المذياع وهب نحوه.
ألقى مياس التحية بحرارة بوجه بشوش تزينه لحية خفيفة مشذبة، كان الرجل ممتلئ الجسم يعمل مدير مكتب لمنظمة خيرية، وعرض عليه عملا لصالح المنظمة فرد سلام: «من أجل مصاري نظيفة وحلال، لا أقول لا أبدا. لكن ما الذي أتى بكم إلى هنا؟»
– «كنا ذاهبين لجرد وترتيب معونات في المخزن وبعدها نتجه إلى المكتب»
– «الله حيي أصلك أخي، لييك، أنتم الأبطال الحقيقيين، أفي حاجة لمساعدة بالمخزن؟»
– «ما في داعي، معي الشباب راح يساعدوني» وأشار إلى الشابين اللذين إلى جانبه؛ سامي، الأشقر الطويل والذي يمسك بحاسوب محمول ويضع سماعات في أذنيه. أما الثاني، فقد كان تيم صاحب الشعر الطويل المجعد كأجمة أحراش، فألقى التحية بابتسامة ساذجة لمعرفته السابقة به، وعاد يلاعب هاتفه المسطح بأصابعه وتبين له أنهما من أبناء الألفية الجديدة المهووسين بالتكنولوجيا، فقال سلام متهكما: «إذا كان هيك، الله يكون في عونك» وأضاف: «فلنجتمع غدا على كأس شاي»
تحسر مياس قائلا: «لو كان بيدي، بيد أن عندي شغل لفوق راسي، فأنا مسؤول على مشروع افتتاح متجر هنا»
فاستغرب سلام قائلا: «منظمة خيرية تفتتح متجرا؟»
ضحك مياس وأجاب: «بيت البركة لن يكون متجرا عاديا، إنه السلع مقابل الكوبونات. كيف أشرحها… يسلم لكل أسرة محتاجة كوبونات بعدد من النقاط على حسب احتياجاتهم كل شهر، فكل ما زادت الاحتياجات وقلة الدخل ازداد عدد النقاط. أما السلع فهي مسعرة بالنقاط وهكذا تتاح للمستفيد اختيار ما يحتاجه وهذا أفضل من تسليمه سلة معونات قد لا يستفيد من نصفها أو مساعدات تأتي بشكل مفروض»
– «والله فكرة حلوة هاي، وكيف ستحسبون هذه النقاط؟»
– «نقوم بعملية إحصاء وهاذين الشابين، ما شاء الله عليهما، قاما بتطوير برنامج يساعدنا ومكلفين بموقع المنظمة أيضا»
فتدخل تيم بحماس: «أنا اشتغلت على المحتوى وسامي تولى عملية التطوير» واسترسل في ثرثرته فهز سلام رأسه مدعيا الفهم، ومن دون سابق إنذار، ارتفع دوي انفجار هز أركان السوق.
أخفض الجميع رأسه واختبئوا خلف أي شيء يجدونه يصرخون وعلت التكبيرات في الجو، فأحدهم فجر سيارة مفخخة وسط السوق الشعبي…
بعد مدة وجيزة، انتشر العسكر في كل ناحية وصفارات الإنقاذ المدني التي تدوي بصخب. طُوقت البقعة المحترقة التي خلّفها الانفجار وقد أصاب محل خضروات كان قرب السيارة المفخخة. وقف أبو جابر ممسكا برأسه من هول ما يرى وتحوقل وبسمل أما سلام أشعل سيجارة يمتص بها حرقته على هذا البلد الضائع، فمر تيم من أمامه رافعا هاتفه لتصوير المشهد ليضعه على صفحته الفيسبوكية، فدنا من هيكل السيارة الذي لا يزال مشتعلا لكن ما إن رأى جريحا احترقت رجله من الفخذ إلى الساق وقد تآكل ما فيها من لحم حتى تأوه واصفر وجهه فصاح به سلام لاعنا: «تعال إلى هنا أيها الغر»
اجتمع المتفرجون عديمي الفائدة حول محيط الانفجار وهب المسعفون إلى نقل الجرحى، ساعدهم بعض الشباب من بينهم مياس.
سأل أبو جابر: «كم وصل عدد الضحايا؟»
أجاب الشاب الأشقر وقد وضع يده في جيبه مكتفيا بالمراقبة: «ضحيتان، امرأة وطفلها»
فرقعت شعلة فابتعد المتجمهرون نحو الخلف وأيضا المتطوعون حتى لا يخاطروا بحياتهم، لكن شابا آخر اندفع يحاول أن يصور عن قرب ليبثه على ما يسمونه اللايف ودفع سلام جانبا فزاد من حنقه واصطدم أحد آخر به من الخلف فأطلق سبة إلا أنه لجم لسانه، فقد وقفت إلى جانبه صبية، تهيأ له أن رآها في مكان ما قبل الآن، ارتدت ملابس رجالية واسعة بشعر أسود متموج يلوح في الهواء إلا أن خضرة عينيها ذكرته بمن هي، كانت المسافرة التي دفعت أجرة الركوب من دون أن تستقل الميكروباص.
علق أبو جابر وهو ينظر للمحل المحترق: «هل هؤلاء الناس لا يتعبون أبدا، تفجير كل يوم؟» وضم مياس ذراعيه مطلقة تنهيدة مملوءة بالحسرة أما سلام فأخذ نفسا طويلا من السيجارة، فجيلهما من أشعل الثورة ولم يعرف كيف يخمد الحرب التي ورطه العالم فيها.
اقترب رجل قصير القامة وقد وقف بينهم ليشاهد عن قرب ما يحصل ثم قال: «هؤلاء الدواشع أولاد الكلاب يحرقون الأخضر واليابس»
فسأل تيم سامي الذي بجانبه وقد كان صوته مسموعا: «أمتأكدون من أن داشع من نفذت العملية؟» كان سؤالا لا طعم له ولا معنى،
أجابه أبو جابر: «انظر يا بني، أيا كان، الله يلعن الذي كان السبب، داشع والضبع والأمريكان والروش وكلهم سواء» وأكمل بنبرة أشبه بالصراخ: «ضجرنا رائحة الدخان والدم في أنوفنا!»
قال سلام مواسيا: «الله كبير يا أبا جابر، سيفرجها عما قريب»
تدخل الرجل القصير الذي صرخ متحمسا وكأنه يشاهد مباراة كرة قدم: «أراهن بكل ما لدي أن جماعة الأنصار من داشع وراء هذا، لابد أنهم يريدون الرد بعدما تم القبض على قائدهم المدعو أبي يزيد ومرافقيه»
أشعل سلام سيجارة ثانية نافثا دخانها نحو السحب الكثيفة السوداء التي تلف الخردة المشتعلة ووضعها بين شفتيه وهو يتكلم: «إيييه أكيد، سأراهن بمليون ليرة على أنهم أصحاب أبي يزيد، فهذا الرجل أشرس من بن لاذن وأبي بكر البغذاذي مجتمعين. لو أعدموه فور قبضهم عليه لأراحوا العالم من أمثاله، فهذا النوع من البشر يستحقون أن يعدموا ولا تأخذك بهم رحمة»
– «وماذا تعرفونه أنتم عن أبي يزيد؟»
فحل الصمت بين الرجال السبعة والتفوا نحو الصبية ذي العيون الخضر وأكملت والغضب يعتمل في صوتها: «كل ما أسمعه هم فعلوا، أولئك قَتلوا أو قُتلوا، لماذا لم يوقفهم أحد؟ لما ظل الضبع يحكمكم طيلة أربعين عاما، لماذا خرس الناس طوال هذا الوقت؟ وحين نهضوا تشتتوا كالجرذان، يعيشون في الذل والمهانة وأصبحوا حديث العالم ضعفاء خاملين» ثم نظرت إليهم: «أنتم أيها الكبار من جعلنا ما نحن عليه الآن، صمتكم وخمولكم والاكتفاء بالقليل دائما، ربما الدواشع مريعون لكن على الأقل جعلوا العالم يتزعزع تحت أقدام…» فبترت جملتها حين لاحظت عيون من حولها وهم يحدقون فيها بذهول.
أطلق سلام نخيرا ساخرا ثم رد وهو يلاعب السيجارة بين يديه: «وماذا كان يفعل أبو يزيد؟ هل كان ينقذ الناس ببندقيته وتكبيره؟» خرست الفتاة وقد وجدت نفسها قد تفوهت بالكثير وتصاعدت الهمهمات والاتهامات الصامتة نحوها، فلن يقف في الصف الدواشع إلا واحد منهم، المسكينة متوهمة.
فجأة صرخ الرجل القصير بنبرة صوته العالية وهتف: «انظروا لا يزال أناس عالقين بالمحل» وتعلقت العيون صوب المبنى المحترق.
اقترب سلام من الصبية وقد طغت رائحة سجائره على رائحة الرماد الكريهة قائلا: «أرأيت ماذا يصنع أمثال أبي يزيد يا فتاة؟ إن أمثاله لا يميزون بين الصغير والكبير، بين النساء والرجال، فبالنسبة له الجميع كفار وهو من أهل الجنة» ونفث الدخان في وجهها متعمدا
ردت وقد سمع صوت اصطكاك أسنانها: «العم أبو يزيد لن يفعل شيئا كهذا، إنه لا يقتل الأطفال والنساء»
أطلق ضحكة مجلجلة من سخافة كلامها وأجابها بسخرية: «وماذا يفعل؟ آه نعم يعاشر النساء والأطفال على السواء»
لم يستوعب ما جرى ففي غمضة عين باغتته بلكمة ارتمى بفعل قوتها إلى حضن أبي جابر.
أمسك سلام بأنفه المهشم متأوها من شدة الألم والدم ينزف بكثافة وسارع إلى لملمة رجولته التي تدلقت على الأرض وكاد أن يهاجمها فأمسك به مياس وأبو جابر فصاح في وجهها: «يا بنت القحبة… لو لم تكوني امرأة للقنتك درسا»
ردت صائحة: «فلتحاول يا ابن الكلب» فانفلت من قبضة الرجلين ليشدها من طرف عنقها لكنها حدجته بنظرة متحدية إياه، لم ير يوما مثل هاتين العينين، كانت كعيني وحش مفترس سينقض عليه في أية لحظة. شده مياس إلى الخلف وقال: «استهدي بالله أخي سلام، وأنت يا بنت الناس حِلِّي عنا»
*******
زهراء
15 أيار II021
صمت يهيم بالمكان حتى علا صوت محرك سيارة تدريجيا في الجو. مسحت الصبية يدها اليمنى المغطاة بالكدمات من أثر اللكمة في ملابسها. لم تكن تفكر بوضوح لحظة تورطها في الشجار فقد أشعل الرجل ذو الشوارب غضبها وقد كانت الحرقة تتآكلها لعدم استطاعتها الاستمرار في العملية، فالأسدي كان له موقف مختلف.
تفحصت الطيات عند الصدر وتهلهل الثوب فوق كتفيها، وجمعت خصلات شعرها المبعثرة تحت القبعة بعناية، اشترتها ببضعة ليرات قبل أن تخرج من المدينة. تلمست المسدس المخبأ عند خصرها وعطلت قفل الأمان، فهي لم تكن تأمن لأي أحد من أتباع الأمير. كان يختبئ مع عناصره من الأمنيين في جحور كالأرانب بعدما استهدفت قوات التحالف مراكز عملياته واحد تلو الآخر.
أشار المقاتل إليها بأن تستقل السيارة وأن تضع قناعا أسودا على رأسها لكيلا تتعرف على الطريق المؤدية إلى مخبأ الأمير. توقفوا في أرض حجرية مهجورة حيث وجدت حسينا ينتظر إلى جانب حارس ملثم واقتادهم نحو كهف حفر حديثا. مضى بهم في مسارات ضيقة أودت بهم إلى فسحة معتمة.
تدلى من السقف مصباح لا يكاد يضيء نصف مساحة المكان، جلس أبو حمزة الأسدي أمام طاولة يلاعب بيده اليمنى خنجرا قديما بقبضة سوداء مرصعة بقطع زجاجية. لاح بيده لأحد حراسه فأتى بأبي سلمان مكبلا يجره ورماه نحوهما. ساعده حسين على النهوض لكن الرجل الضخم بوجهه الدامي أبى ونهض متكئا على قدمه المصابة وابتسم لهما كاشفا عن فقدان أسنانه الأمامية وقد تورمت عينه. قال لسيده في خنوع: «نحن تحت أمرك أيها الأمير»
تمازجت الظلال مع ضوء المصباح البخيل على ملامح الأمير، كان رجلا ذو أنف طويل بأرنبة عالية ولحية وشارب كثين، تفيض الثقة من عينيه الحادتين وبلحظة يحسب الناظر أن كل واحدة منهما تنظر في اتجاه لكن بصره يشيح عنهما فجأة إلى الوشوم الزرقاء المختبئة تحت أكمام عباءته الأفغانية.
قال بنبرة خفيضة وبعربية فصحى لا تشوبها شائبة: «إنه واجبك بأن تحرص على انضباط تابعيك يا أبا سلمان، فقد كنت الساعد الأيمن لأبي يزيد مما يجعلك خليفته في قيادة فصيل الأنصار»
– «بالتأكيد سيدي، أتفهم أن في عملية كهذه يجب أن تتم الموافقة من القيادة العليا وقد تصرفنا بطيش لكنه أثر خيبات الأمل المتتابعة على نفوس الرجال وإن النفس لأمارة بالسوء. فكيف يجتمع الكفار بينهم ويلتحمون في حين نحن نتشتت كالفئران الشاردة؟»
– «تحالفهم هذا يعني أنهم يهابوننا وكل أنظار العالم مصوبة نحونا» كانت كلماته لا تتوافق مع ما يعايشه المقاتلون وأكمل رافعا سبابته نحو الأعلى: «الدولة الإسلامية لن تسقط حتى يلج الجمل من سم الخياط. لن تسقط أبدا والله سيعلي اسمه ولو كره الكافرون»
رد حسين بحماس: «ونحن معك أيها الأمير لذا نرجو أن تمدنا بالقوة اللازمة لتحرير القائد والرفاق، بعد إذنك»
– «إنه أمر مؤسف أن يقع مجاهد عظيم كأبي يزيد في الأسر، وإن كنت قد تمنيت له الشهادة في ساحة المعركة أفضل له بكثير من ذل الأسر»
فتدخلت الصبية: «ما نفعه إن كان ميتا؟ لولا تدخلك لتمكنا من تحرير القائد ومن معه»
– «لقد كبرت أيها…» وتفحصها بعينيه غير المتماثلتين: «أيها الفتى، أرى أن أبا يزيد علمك الكثير لكنه نسي أن يعلمك الانضباط. كانت الأولوية لزعزعة عملاء العلمانية الكفرة الذين يلقبون أنفسهم بجيش التحرير. وبما أن أبا يزيد أصبح في عهدتهم فهذا سبب آخر للقتال»
دور الخنجر على الطاولة مفكرا ثم قال وهو ينقب بأبصاره زوايا الدهليز المظلم: «لديكم كلمتي، سيخرج أبو يزيد ومن معه، فإن لم يكن فستكون أعظم سخرية في التاريخ إن قتل على يد أحبابه» لم تفهم ما قصده بكلامه وقد تجلت نصف ابتسامة على شفتيه المتصلبتين.
قام من مقعده قائلا: «عملية التفجير في السوق الشعبي ما هي إلا البداية، يجب أن نوقف زحف جيش التحرير قبل أن يقوى عوده ويصل إلى مشارف إيبلا ، وهذا واجبكم يا فصيل الأنصار» ونظر لأبي سلمان: «ستقود الفصيل للاستيلاء على معبر حلبا الغربي في حين سيتولى فصيل الإيغور الهجوم على الحاجز العسكري التابع لجيش التحرير» ثم ربت على كتفه: «بالتأكيد بعد أن تستعيد قوتك» فأحنى أبو سلمان رأسه وقد حافظ على ثباته رغم أن الجرح في ساقه أخذ ينزف من جديد.
– «فلتسانده يا حسين» وحرك الأمير أوراقا على سطح اللولب الكبير الفارغ الذي لعب دور طاولة: «قبل هذا علينا التخلص من صورته الإعلانية المنافقة، لهذا يا فتى فسأوكل إليك مهمة يسيرة بإذن الله» وحدق في الصبية: «أريد أن أعرف كل خطوات عملاء الغرب أولئك، من كبيرهم إلى صغيرهم، ماذا يخططون ومن يرعاهم وعلى رأسهم هذه» وثبت صورة امرأة بالخنجر فوق الطاولة.
فأجابته: «هذه ليس مهمة مقاتل» بالأحرى إنه عمل مخبر، مهمة حقيرة لا ترقى لمستواها.
– «بل العكس، التسلل في صفوف العدو أمر في غاية الأهمية. وعندما نزلزل صفوفهم، سيصبح تحرير أبي يزيد وإخوتنا أمرا واقعا»
وأكمل الأمير المزهو بنفسه: «ستكون رسالة مفادها أن أي عميل للغرب، أو ما يدعون أنفسهم بنشطاء وثوار، يخطو داخل حدودنا سينال ما يستحق» وأعطى الإشارة لمعاونه بأن يقودهم إلى الخارج.
*******
أنيكا
قدسياء، بلستينا أيار II021
رفع الكهل البلستيني باب الدكان. أخرج طاولة خشبية دائرية صغيرة على الطراز الشامي. علق جزدانات من الجلد، بعض الاكسسوارات والمصوغات. جلس رافعا أنفه وإن كانت عيناه غير مرتاحتين. ظلت أنيكا تتفرج عليه لمدة كافية، تضع منديلا خفيفا على رأسها، بنظارات شمسية، سمرتها الداكنة استوقفت الجندي الأشراريلي، ولكن ملامحها الهندية جعلته يفطن إلى أنها سائحة. كانت بشرته بيضاء أنف طويل معقوف عينين متقاربتين باهتتين… ثم عادت تنظر للكهل، سمرة فاتحة، عينين حادتين، أنف عريض بمنخرين واسعين…
تحركت، تسير ويديها في جيبي معطفها الجلدي الطويل، ترتدي تنورة طويلة، ملابسها من دون شك تثير الفضول. ابتاعت من الكهل صاغة على شكل قلب بثلاث شيقلات. لم تكن صناعة متقنة بل مجرد خردة خالية من أي تعقيد أو جمالية، لكنها لم تكن تهدف لشراء هدايا تذكارية بقدر ما ترغب برؤية أصابع الرجل ووقفته وهو يحاول إقناعها بالشراء، لديه مشكلة في العمود الفقري، سيفقد القدرة على المشي ثم أداء الحركات المعقدة بعد حوالي… قاطع رنين الهاتف شرودها، فاستمرت بالسير على وتيرتها البطيئة بين أزقة القدسياء القديمة إلى أن وصلت معهد ‘المعبد’.
تستقبل منحوتة الشمعدان اليهودي الداخلين إلى المبنى ذي القرميد الأصفر كمعظم الأبنية بلونه وهندسته المعمارية، مؤسسة عصرية لا تختلف كثيرا عن غيرها إلا أن البخل يفوح من زواياها، كأي مؤسسة أشراريلية أخرى، فأكبر اختلاف بين اليهود والعرب هو البخل.
كان في انتظارها شيلدون، يرتدي بذلة رسمية ثقيلة في هذا الجو الحار. أبدى امتعاضه من تأخرها وأعاد ملاحظته بأن عليها احترام المواعيد والقوانين، كان جليس الأطفال الخاص بها، وللأسف عليها ألا تزعجه، فهي مهمته. يتميز شيلدون بطول القامة وعينين شديدتي الزرقة، وصوت رفيع بالنسبة لذكر، كان عميلا لدى وكالة الاستخبارات المركزية، جاء إلى أشراريل بصفته مساعدا قانونيا. وهما معا فردان من البعثة الذي أرسلته شركة بيلمان التي تقع بتكساس إلى قدسياء، لتولي نقل ومراقبة دورية لمنتجها الحصري. قالت: “جميل جدا أن تعتقد أنك رجل حقيقي بمنصب حقيقي” “القوانين هي القوانين، سيطرح من رصيدك ثلاث نقاط على تأخرك. والآن اصمتي وأدي عملك
مشيرا إلى ظهور البروفيسور جاكمان الذي تبعاه بينما هو يسير بصمت متوتر، ما برح أن قاطعه بابتسامة ونبرة واثقة فور دخولهم إلى إحدى الحجر. قدم البروفيسور لمدير المعهد سبب التغيرات الفيزيولوجية الذي أصابت البقرات الخمس وأنهى تفسيره بهزة من الكتف برجل على رجل: “أفضل شيء يمكن القيام به، إعادة التجربة بأخذ عين الاعتبار ما حصلنا عليه من النتائج إلى حد الآن” وضع روفين جانب يده على عنقه قائلا: “الوزير يضغط على رقبتي، لقد استقبل الأبقار بنفسه والآن تريد إخباره أنها لم تعد صالحة”
– “لازالت صالحة للأكل على كل حال” “أتظن أن هذا الوقت صالح للمزاح؟”
– “آسف، لم أقصد الإساءة. ولكن إدارة الشركة تقترح القيام بالعملية من أولها لآخرها هنا، تحت مراقبتكم” وحل عقدة رجليه ليعقد ذراعيه: “هذه المرة بالفعل قد تكون الموعودة، وأيضا لو أن الأمر يتم بالكتمان لحد التأكد من جاهزية العجول لتتجنبوا بلبلة الإعلام غير المفيدة”
– “إنها ليست بلبلة بل هو إعلان بأننا قائمون على تحقيق مشيئة الرب”
فتح جاكمان ذراعيه: “اعذرني لا أقصد التقليل من.. معتقداتكم، إني أقوم بعملي وحسب” رفع روفين بصره تجاه شيلدون الذي يدون ملاحظاته على اللوح الرقمي بصفته مساعدا، ثم ألقى نظرة إليها وحملقت فيه أيضا بابتسامة واثقة، فعقب جاكمان: “البروفيسورة أنيكا هي من ستتولى التجربة القادمة”
– “وماذا ستفعل أنت؟”
– “ماذا سأفعل؟ سيدي، لدي كثير من الأعمال التي تنتظرني.. هذا لا يعني أبدا أبدا بأن مشروعكم أقل أهمية، بل العكس تماما لهذا أوكلنا المهمة لواحدة من أفضل علمائنا السيدة أنيكا”
أشار بسبابته قائلا بإنجليزيته الشرقية: “نريدك أنت ليس هي” ولوح بيده: “أو سنقطع التمويل نهائيا”
عند خروجهم، فضل جاكمان السير بدلا من السيارة، قائلا لشيلدون: “اذهب وخذ استراحة، أريد أن أصفي ذهني لبعض الوقت” تجلت ابتسامة عصبية على وجه الرجل الأبلق: “أأنت متأكد؟ لا أعتقد أنها فكرة جيدة” “هيا، هيا اذهب واسترخ شيلدون” رمقته أنيكا بتعبير ساخر، بينما هي اقترح عليها البروفيسور مرافقته.
قال وهما يمضيان بين الأزقة الضيقة: “لا تلقي بالا لذلك الرجل المتعصب”
– “لما علي ذلك؟ انتظر، أرفض تعييني لجنسي أو للوني؟”
– “لا تبالي.. لا تبالي، إنه الخاسر طبعا” وحدجت نفسها في زجاج إحدى السيارات غير متأكدة.
سألت: “لماذا تريد أن تستقيل على كل حال؟”
تبدى بعض التوتر عليه ورد: “لقد كبرت في السن وأفضل العودة إلى نيويورك. أفضل شيء نحصل عليه بخبرة واسعة وسمعة جيدة هو اختيار مكان عملنا على الأقل، ألست محقا؟”
– “لازال أمامك سنين طويلة لتعيشها” على الأقل ثلاث عقود، شكرها ظنا منها أنها تواسيه، رغم تجاوزه سن السعبين إلا أن مؤشراته الصحية جيدة.
أخذت القبة المذهبة للمسجد الأقصى بالظهور كلما تقدموا شرقا، أخذ جاكمان لحظة واقفا يتمعن ثم قال: “أتعتقدين حقا أن هناك شيء أسفل ذلك المكان؟”
– “أتقصد الهيكل الذي يحتاج بقرة ليظهر؟” انفلتت منه ضحكة رغم أنها نبرتها لم تحمل شيئا من السخرية، أردفت: “البقر من حيث أتيت مقدس أيضا”
– “لا، لا أقصد الإساءة لأحد، للجميع حق في عبادة أي شيء والإيمان بأي شيء”
– “لا تقلق، ما أقصده هو أحيانا يحتاج البعض أن يسكب بعض الدماء ليحصل على شيء مقدس لإيمانهم، إن كل ما زاد الثمن زادت قيمة الشيء…”
– “أتؤمنين حقا بأن هناك تابوتا مقدسا أسفل ذلك المبنى؟”
– “أؤمن بالحقائق، ومنها أن كثيرا من الدماء سفكت هناك، ألأنه مقدس أم هذا ما جعله مقدس، هذا محل للنقاش”
– “تقصدين الصراعات التي لا تنتهي..”
– “بل القرابين”
اشتد توتره وصمت لحظات يمحص ما سيقوله تاليا: “هناك سبب يدفعني للابتعاد من هنا” “غير التقدم في السن” تباسم ثم عاد ليصمت يلوي شفتيه. قال كأنه يحدث نفسه: “أحتاج لرأي آخر.. هل يمكنني أن أريك شيئا؟”
بغرفته بالفندق، ألقت نظرة سريعة على ملفات جمعها. سأل: “ما رأيك؟ الأمر مخيف، أليس كذلك”
– “تقصد حصد بعض الأعضاء البشرية..”
– “ليس هذا وحسب، إنهم.. كأنهم يقومون بصناعة بزة.. بشرية.. منذ حوالي عشرين سنة عملت بنفسي على تجربة كهذه، صناعة هيكل لآلي اعتمادا على الجلد البشري لمحاكاة دقيقة للشعور بكل شيء الملمس الألم البرودة… لكن أمرنا بالتوقف لأسباب تتعلق بالتمويل، هذا ما أخبرونا به… ولكن بعد مجيئي إلى هنا اكتشفت بأن المشروع لم يتوقف قط… إنهم يحصدون الأعضاء البشرية ويختبرون على البشر الأحياء.. إنهم يقومون بتجارب على البشر”
– “أنت أيضا تقوم بتجارب على الحيوانات”
رمقها منذهلا من ردة فعلها: “التجارب على البشر جريمة بشعة عديمة الرحمة”
– “بشر؟ حيوانات؟ ما الفرق؟ كلها أجساد مائعة”
– “ما الفرق؟! إنها جريمة..”
– “أوه.. نعم، نعم أفهم هذا” ثم استدركت تسايره: “اعتقدت أنك تقصد التجارب السريرية…”
– “لا، لا، انظري..” ولوح بيده: “كان خطأ كبيرا إخبارك بهذا” البشر، أحيانا، ظريفون.
قالت: “سأشتاق إليك” تعجب جاكمان من تعليقها.
حينما دخل شيلدون تراجعت بالكرسي إلى الخلف، وقف البروفيسور متسائلا عن كيفية دخوله إلى غرفته ثم عاد ينظر إليها: “لماذا؟ هل أنت من اتصل به؟” “بالتأكيد لم أفعل” فقد كان الضابط يراقبه في الأيام الأخيرة وبعد حديثه هذا تحولت الشكوك إلى خطر محدق.
رفع الضابط قدمه وبركلة واحدة ارتمى البروفيسور نحو الحائط بقوة كبيرة فتهشمت رأسه كإسفنجة، وضعت أنيكا يدها على خدها: “خسارة، كان دماغا مثيرا للإعجاب” فتح شيلدون حقيبته ووضع القفازات الصفراء، وأخذ ينظف ويرتب مسرح جريمته، جلب المبيض وممسحة، وبرميلا لإذابة الجثة. كان يعمل وهو يدندن لحنا عفويا. علقت: “انظروا إليه، كم هو سعيد حقا..” رد غير مدرك للتهكم لنبرتها: “أحب كثيرا رائحة المبيض، وعندما يصبح كل شيء نظيفا” وانتابته نشوة “أتدرك أن السيد كوهين سيكون غاضبا؟” توقف عن مسح بقايا بصيلة المخ الصغيرة مدركا أنهما سيتعرضان للتوبيخ: “من سيعرض عليه التقرير؟” ثم لعبا حجرة ورق مقص، لتخسر الرهان. خفف شيلدون قائلا: “على كل حال، لديك رحلة إلى سورمادا، ربما سيرأف بك” ورسم ابتسامة سعيدة، سيكون لديها لقاء مع أبو حمزة الأسدي، على الأقل ستستمتع قليلا…
*******