بالمدة الأخيرة، تشهد البشرية على ارتفاع غير مسبوق لدرجة الحرارة. فلا يمكن لأي منا إنكار التغير المناخي حتى من قبل أصحاب نظريات المؤامرة. وللأسف، فلهذا التغير تأثيرات خفية تؤثر على حياتنا الاجتماعية والنفسية بحيث أنها تزيدها سوءا. ففي عالم تتقاطع فيه القوى السياسية والاجتماعية والبيئية، يبدو أن ما من عامل يمكن تجاهله عند التفكير في العدالة وحقوق الإنسان، ومن تأثيرات التغير المناخي الخفية تفاقم الفجوة الجندرية لكن كيف؟
للإجابة على هذا السؤال الغريب وربما غير المفيد، سنناقش في هذا المقال فرضية بسيطة: كلما زادت درجة الحرارة بمنطقة ما كلما اتسعت الفجوة الجندرية وتقلصت حقوق المرأة فيها. أي هل هناك علاقة خفية الشمس الحارقة وسلطة أبوية لا ترحم؟

الحرارة ليست محايدة: ما يحدث في أجسامنا عند ارتفاع درجة الحرارة؟
عند تجاوز درجة حرارة معينة غالبًا فوق 30 °C، يبدأ الجسم البشري بإطلاق إنذارات داخلية للحفاظ على التوازن، مثل:
- يزداد معدل ضربات القلب والتنفس.
- يرتفع هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر.
- يتراجع أداء الدماغ التنفيذي أي التفكير المنطقي، التركيز، الكبح الذاتي.
- تقل قدرة الجسم على النوم العميق والتعافي.
وهذه التغيرات تسبب توترا جسديا ونفسيا مزمنا يؤدي إلى إرهاق عصبي، وميل للعنف، وانخفاض في جودة اتخاذ القرار.
وهذا ليس فقط رأيًا، بل مدعوم بأبحاث علمية حديثة في مجالات علم الأعصاب البيئي (Environmental Neuroscience) وعلم النفس المناخي.
فالعلاقة بين ارتفاع درجة الحرارة والعنف هي علاقة مثبتة علميا. ففي دراسة منشورة بمجلة Nature Human Behaviour (المصدر)، تبيّن أن درجات الحرارة المرتفعة ترتبط بارتفاع معدلات الجريمة والعنف الأسري، خصوصًا في المناطق الفقيرة أو المكتظة.
السبب يعود إلى أن الجسم يصبح أقل قدرة على ضبط الغضب، خصوصًا في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
والنساء في هذه الظروف هن أول من يدفع الثمن بحيث نلاحظ:
- تصاعد العنف المنزلي نتيجة احتكاك يومي متوتر.
- انعدام الحيز الآمن للهروب أو الاستقلال الذاتي.
- استخدام الحرارة كذريعة لتقييد الحركة والمشاركة العامة (“الجو لا يسمح، ابقي في المنزل”).
الدماغ تحت الضغط: تأثير الحرارة على الوظائف المعرفية
تشير أبحاث من جامعة هارفارد إلى أن:
- الطلاب في المدارس غير المكيفة سجلوا أداءً أضعف في الاختبارات بنسبة تصل إلى 13%.
- انخفاض التهوية وارتفاع الحرارة في المنازل يقللان من التركيز والقدرة على الحفظ.
- في بيئات العمل، يزداد معدل الخطأ مع كل درجة حرارة إضافية.
وأنا متأكد من أنك أنت أيضا لاحظت هذه التغيرات عند ارتفاع درجة الحرارة صيفا. فإذا كانت هذه هي الآثار على التعليم والعمل، فكيف تكون الحال بالنسبة للنساء اللواتي يعانين أصلًا من التهميش؟
النتيجة هي حلقة مفرغة من الإقصاء: حرارة تزيد التوتر، فتقل الإنتاجية، فيُبرَّر تهميش النساء، ويتعزز الحبس المنزلي القسري.
فالنساء للأسف يتأثرن بالحرارة بطريقة أكثر عمقًا لأسباب متعددة:
- مسؤوليات رعاية المنزل (الطبخ، التنظيف، الغسيل) تصبح أكثر مشقة في الأجواء الحارة، خاصة بدون كهرباء أو ماء.
- اللباس المفروض اجتماعيًا أو دينيًا لا يتناسب مع البيئة الحارّة، لكنه لا يُخفف، بل يُشدد في بعض المناطق.
- البنية التحتية الحضرية لا تراعي احتياجات النساء: لا توجد أماكن عامة مكيفة أو وسائل نقل آمنة، ما يعزز حبسهن داخل المنازل.
وبالتالي، تتضافر البيئة مع النظام الاجتماعي لإنتاج ما يمكن تسميته بـ “الاحتباس الجندري داخل الاحتباس الحراري“.
تأثير المناخ على العدالة الجندرية
عند النظر إلى خريطة العالم، نجد أن معظم الدول ذات المناخ الحار تقع فيما يُعرف بالجنوب العالمي: الشرق الأوسط، إفريقيا، جنوب آسيا، أمريكا اللاتينية. وبشكل متكرر، تظهر هذه المناطق في أسفل مؤشرات المساواة الجندرية، وحقوق المرأة، والحريات السياسية.
ليست الحرارة بحد ذاتها سببًا مباشراً لتراجع هذه الحقوق، لكن المناخ يلعب دورًا ضمن شبكة معقدة من العوامل. فالمناطق الحارة غالبًا ما:
- تعاني من الفقر البنيوي، ما يضعف إمكانية تطوير التعليم والمؤسسات.
- تضم مجتمعات أبوية تقليدية أكثر تمسكًا بالأدوار الجندرية الصارمة.
- تواجه أنظمة حكم سلطوية أو دينية تحد من الحريات العامة.
وبالتالي، يبدو أن الحرارة ليست مجرد حالة فيزيائية، بل سياق يُعاد داخله إنتاج منظومات السيطرة على الأجساد، وأولها جسد المرأة.
منظور بيئي-اجتماعي: عندما تصبح الطبيعة حليفة السلطة
لنأخذ مثالًا: البلدان التي تسجل أعلى درجات حرارة سنوية مثل السعودية، السودان، النيجر، باكستان، وأفغانستان… هي أيضًا من بين الدول التي تُسجل أدنى معدلات في:
- مشاركة النساء في القوى العاملة.
- التمثيل السياسي للنساء.
- الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية.
- القوانين التي تحمي المرأة من العنف والتمييز.
الطبيعة هنا لا تخلق القمع، لكنها تسهله أو تمنحه غطاءً “عضوياً”. فعندما يصبح الخروج من المنزل تحديًا بيئيًا، تصبح القيود الاجتماعية على حركة المرأة أكثر قابلية للتبرير: “الجو لا يسمح”، “الشمس قوية”، “اللباس الشرعي ثقيل”… إلى آخره.
وهكذا، تُستخدم الطبيعة كذريعة لتعزيز الهندسة الجندرية للمجتمع، وتُحوّل الحرارة إلى شريك صامت في قمع النساء.
المناخ وارتفاع درجة الحرارة كعامل خطر مضاعف على المرأة
التغير المناخي لا يوزع أعباءه بعدالة. فالنساء في المناطق الحارة هنّ:
- الأقل وصولًا إلى المياه النظيفة، وغالبًا ما يتحملن مهمة جلبها لمسافات طويلة.
- الأكثر عرضة لانقطاع التعليم، خاصة عند الأزمات البيئية أو موجات الحر.
- الأكثر تضررًا من النزوح والتشريد عند الكوارث المناخية (فيضانات، جفاف…).
- الأكثر تعرضًا للعنف المنزلي أثناء الأزمات المناخية، نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
بعبارة أخرى، المناخ الحار لا يكتفي بجعل الحياة صعبة؛ بل يجعل النساء أكثر هشاشة داخل أنظمة لا تكفل لهن الحماية أو الكرامة.
هل توجد استثناءات؟ بلدان حارة بحقوق متقدمة؟
قد يُقال إن ثمة دولًا حارة تحقق تقدمًا في مجال حقوق المرأة، مثل:
- البرازيل أو الهند: ولكن في العمق، لا تزال الفجوات الجندرية واضحة، خاصة في المناطق الريفية والفقيرة.
- أستراليا وبعض الولايات الأمريكية الجنوبية: لكنها تنتمي إلى عالم سياسي واقتصادي “أبيض”، ما يجعلها استثناءً يَحكمه الاستعمار التاريخي وليس المناخ فقط.
في المقابل، نلاحظ أن الدول ذات المناخ المعتدل مثل السويد، النرويج، نيوزيلندا، كندا… تتصدر بشكل دائم مؤشرات المساواة الجندرية. وهذا يعزز فكرة أن البرودة لا تصنع العدالة، لكنها لا تعيقها، بينما الحرارة قد تخلق بيئة تسهّل القمع، خصوصًا حين تُضاف إلى عوامل أخرى.
السلطة البيئية: عندما يتحول الطقس إلى جهاز أيديولوجي
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تحدث عن “السلطة الحيوية” التي تتحكم في الأجساد والأنظمة الحيوية للناس.
في هذا السياق، يمكن للحرارة أن تعمل كجزء من نظام السيطرة: جسد المرأة يُحاصر ليس فقط بقوانين وقواعد أخلاقية، بل أيضًا بشروط بيئية تُستخدم لتبرير استمرار وضعها ككائن منزلي، مستهلك، غير منتج، وغير مرئي.
بل قد نجد أن الملابس التي تُفرض على النساء في بعض المناطق الحارة لا تراعي البيئة بل تفرض نفسها كأداة ضبط وسجن يومي للجسد. فالحرارة هنا تتحول من مجرد طقس، إلى سلطة رمزية تؤكد على الهشاشة والضعف والاعتمادية.
من العدالة المناخية إلى العدالة الجندرية: مسارات التقاطع
العدالة المناخية ليست فقط عن تقليل الانبعاثات، بل عن فهم كيف تُضرب المجتمعات بطرق غير متكافئة. ومن هنا، يصبح واضحًا أن:
- حقوق المرأة ليست مسألة قانون فقط، بل أيضًا بيئة.
- المناخ الحار يضاعف من هشاشة النساء، ما لم تُرافقه سياسات حماية فعّالة.
- أي نقاش حول المساواة الجندرية في الجنوب العالمي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار البُعد البيئي.
فالنسوية البيئية (Ecofeminism) تدعو إلى فهم علاقة القمع المزدوج الذي تتعرض له النساء والطبيعة في المجتمعات الأبوية، وهو منظور يزداد أهمية اليوم في ظل أزمة المناخ العالمية.
فمن المسؤول حرارة الأرض أم برودة الضمير؟
القول بأن الحرارة تُقلص حقوق المرأة لا يعني أن الشمس ظالمة. بل يعني أن البشر، حين يُتركون دون مساءلة، قادرون على تحويل كل ظرف طبيعي إلى أداة قمع.
الحرارة ليست هي العدو، بل الأنظمة التي تُعيد توظيفها في تبرير قمع النساء، وفي إعادة إنتاج البُنى الأبوية المتجذرة.
إذا أردنا الحديث بجدية عن العدالة، فلا يكفي أن نحمي الأرض من الاحتباس الحراري، بل يجب أيضًا أن نحمي النساء من الاحتباس الاجتماعي، والقيود الثقافية، والقوانين الجامدة، والنظرات التي ترى في حرارة الطقس مبررًا لتقييد أجسادهن وأرواحهن.