روزانا

0. نبذة عن الرواية

ليلة زفاف.
عروس تهرب من نافذتها.
قرية تضج بالزغاريد والنميمة.
ومقبرة… يسكنها شبح أنيق، يشرب القهوة، ويروي الحكايات.

شاما لا تهرب من الزواج فقط، بل من ذكرى أختها التي وقعت في فخ العذرية، ومن عبء أن تولد ‘أنثى’ في عالم لم سرق من كل النساء.

لكن لقاءها بـروزانا الروح الغريبة التي نسيت اسمها وتعيش في جسد خياطة عجوز سيغيّر كل شيء.

رواية قصيرة ممتعة عن الأشباح الطيّبة، والصراع بين الأعراف والتقاليد من جهة وبين العلم والأمل من جهة أخرى… هنا الأمل يتسلل من بين غرز الإبرة ورائحة االقهوة الشرقية.

“روزانا”… لأن بعض الأرواح تموت من أجل أن نعيش نحن.

«لا تكبتي أحلامك، لا تهملي عواطفك، فالمرض لا يصيب الجسد فقط، هنا في العمق… هنا في العمق ربما لا نكون بخير»

رواية ورزانا

1. الرسالة المجهولة

– «بالبداية كل شيء له نهاية، لكن النهاية مجرد بداية. ترى هل ستكون نهايتي هذه بداية أفضل؟ رميت أحلامي وطموحاتي لكن التراب أعادها لي، السماء تذكرني بها، أنفاسي لا تزال هنا لأن أحلامي تنبض. كيف لي يا إلهي أن أستمر من دونها؟ لأعيش علي تركها خلفي وإن تركتها لن أستطيع العيش بعدها. إنهم لا يعلمون أن حياتي متوقفة الآن، ربما لازلت أتنفس وقلبي يضخ الدم إلى دماغي المتخم بأفكار نارية تقتل خلاياه كل حين، لكن هذه ليست حياة. ما أريده غير واقعي وغير عملي. لا آبه لما يقوله الناس لكن عيون والدي المحبطة تقتلني كل ثانية، أمي تردد ليس لديها طموح، لو علمت طموحاتي وضخامتها لصدمت لكن هذا يبدو لهم جنون الشباب، الطموح الذي تتحدث عنه والدتي سيارة وبيت وعمل يضخ لي المال آخر الشهر، وكم هي محقة فهذه هي الحياة التي يصبو إليه كل عاقل. غير أن طموحاتي سماوية من الخيال الجامح ومن المعدن الذي لا يوجد على الأرض، طموحاتي تجعلني كالبكتريا التي يرفضها الجسد المضيف إلى أن يقتل أحدهما الآخر، لكني في هذه المعادلة المقتول والتي ستبتدئ نهايته الآن.

يوما ما قالت أستاذة الانجليزية فليكتب كل أحد فيكم ما يطمح إليه، وزعت الورق على الطلاب الجالسين في حلقة، والتي تسمى طريقة عصرية للتدريس حينها، وأنا وبكل حماقتي المعتادة كتبت وأنا كل ثقة وببراءة غريبة: سأغير العالم. لا أدري من أين ضربتني هذه الموجة من الثقة لكني أسميها الآن ضربة الغافل المسكين السكران بأحلامه وبدخوله لجامعة مرموقة، آه نعم لقد كنت حينها طالبة جامعية، في السنة الأولى تحديدا، ربما الآن ستضحك لأنك اعتقدتني طالبة في الابتدائية أو حتى الإعدادية، كتبت تلك الجملة الغبية وأنا بالعشرين بالعمري، وسرعان ما تبددت هذ الثقة في فشلي بأول مشروع دراسي لأنه بكل بساطة لم أكن من النوع المناسب لتلك المدرسة.

لقد عملت بجد ولكن ليس لدي تلك الملَكة، وهذا ليس مهما في مدارسنا صراحة لكنه مهم بالنسبة لي، هناك أشخاص مناسبون لذلك المكان وهناك نوع يتكيف كالحرباء فيستطيع تغيير جلده حسب المعطيات وهذا النوع هو الذي يربح دائما، وهناك من هم مثلي لا يتكيفون أبدا كصخرة تتعرض لعوامل التعرية لكنها تظل صخرة حالمة فوق الجبل. مضت السنة الأولى مليئة بالخيبات والسنة الثانية تأكدت تماما أن مكاني ليس هنا، احتجت لسنتين لأقرر، يا للسخرية… وبالرغم من ذلك أكملت لحصولي على الدبلوم فمن غير المنطقي أن يضيّع المرء خمس سنوات من دون الحصول على تلك الورقة المشؤومة. ضيعت سنتين قبل الجامعة في مدرسة تحضيرية تقتل في الإنسان الإبداع وترفع مستويات الضغط، يخبرنا الأساتذة أننا الزبدة من أفضل الطلاب في البلاد، تبا إن كان الوضع هكذا لأنهم يجعلون من هؤلاء الأشخاص مجموعة من الكيانات الأنانية والذي ليس كذلك لطبعه فسيصبح ضائعا يقود دماغه للهلاك الأكيد.

لقد خرجت عن الموضوع، لأني أكتب رسالتي لأخبر من يقرئها أني لم أستسلم بسهولة، أحببت الحياة لكنها لم تحبني. العالم قطعة من الخراب، من الحزن، من الغضب والصراخ المكتوم من القلوب الحالمة المتكسرة ومن القلوب المتحجرة ومن القلوب الضائعة التي تعيش لكنها لا تحيا. كتبتها أخيرا، رواية لا أحد سيقرأها، لكن إن كانت بين يديك قد تفعل، ربما لدي هذا الأمل الطفولي، أحببت رواياتك وقصصك التي تلمس الروح وتواسيها، التي تجعل المرء يتذكر جوهره الضائع…»

انتقل إلى السطر الأخير: «أتمنى أن تصل خواطري لكاتب مذهل مثلك، وأمنيتي الأخيرة أن يقرأها أحد ويحبها فرائحة الحب هي ما تقود الناس للعيش»

أغلق الرسالة قبل أن يكمل قراءتها فقد كانت طويلة، كما أنه تصله الكثير منها، معجبون ومنتقدون ووضعها في ملف المحذوفات. وضع رأسه على الطاولة وتنهد كأن كل شيء انتهى، حياته ومسيرته المهنية. في أية لحظة سيأتون ويقفون أمام الباب، ماذا سيفعل إن قطعوا يده كما يشاهد في الأفلام؟ كانت الساعة العاشرة إلا ربعا. سيغامر هذه المرة أيضا، ربما سيبتسم له الحظ ثانية. بدأت عادته السيئة في المقامرة قبل ثلاث سنوات، في حفلة خيرية، كانت تلك أول دعوة رسمية له ككاتب مشهور. الكل صار يعرف ‘كمال الإدريسي’ لروايته الجريئة والشبابية وربح جائزة أفضل رواية عربية لتلك السنة، يومها كان الحظ لا يزال حليفه في عمله وأيضا في لعبة المراهنات من النرد الأول فاز وتتابعت انتصاراته وقد ربح مالا وفيرا حتى وإن تبرع به بنهاية الحفلة، لكن هذا الفوز أيقظ فيه جينات كانت نائمة، جينات إدمان وحب المقامرة.

لا يستطيع ربط الخيوط معا لكيفية وصوله لهذه الحال سوى إدراكه أنها شكلت عقدة لا يجد لها حلا، فسرعان ما خسر أمواله كلها وأصبح على رقبته دين يقف وراءه كالشبح في يقظته ومنامه. أول مرة خسر كل شيء لم يأبه، بل أقنع نفسه أنه يفعل كما كان دوستويسفكي يفعل، يخسر أمواله في مراهنات ليجد الدافع لكتابة رواية مذهلة أخرى، لكن شتان ما بينه وبين دوستويسفكي. فقد اكتشف كمال أنه من النوع الذي يكتب في الرخاء، الذي يتخيل له الكتابة كهواية، لا يحب الضغط ولا يحب الآجال المحددة وبالتأكيد لا يحب الفقر أبدا.

دخل من الباب الخلفي، طلب كأسا من شراب مزدوج ابتلعه في رشفة واحدة كما يبتلع الدواء المر. نظر إليه وكيل المراهنات، لقد أصبح معروفا لأمثاله، غير مكانه ليُسمح له باللعب، فإن لم يلعب فكيف سيكسب المال ليرده إليهم، إنه لا يفهم هؤلاء، يمنعونه من هذه المتعة ومن الكسب السريع. وضع على الطاولة رزمتين من الأوراق النقدية ليبعث رسالة لوكيل المراهنات الواقف في الخلف، إنه ليس كما سمع فهو رجل لا تزال سمعته ساطعة. حصل على دفعة أولية لكتابه الجديد، فما كان عليه سوى بعث ملخص عن فكرته الجديدة لصاحب دار النشر التي يتعامل معها، كان شديد السعادة حين اتصل به فاتفقا على نسبة من الربح والدفعة الأولية وأكد كمال بأن الراوية ستكون جاهزة في أسابيع قليلة وساعده لسانه الفصيح وشعبيته على كسب رجل الأعمال، مع العلم أنه لم يكتب صفحة واحدة.

ليس أنه لم يحاول لكن عليه أن يحل مشكلته مع الديون المتراكمة عليه أولا ثم يصفي ذهنه وسيبدع كما لم يفعل من قبل. رمى النرد للمرة الثالثة والعرق البارد سال والعينان الدائرتين الجاحظتين لم ترمشا للحظة، تراقبان مسار المكعب المنقط. رمى بنفسه فوق الكرسي وأعاد رأسه للوراء وأمسك بجبينه اللزج، لقد ذهبت الدفعة وجاءت بدين جديد.

استيقظ كمال مرميا في الشارع ووصل القيء لحنجرته ممزوجا بالدم الذي سال من فكه المضروب، وأفرغ ما في جوفه بجانب الزقاق، سمع شيئا يتردد في الهواء كنشيد، احتاج لبعض التركيز ليدرك أنها تهاليل الفجر اختلطت بعضها ببعض قادمة من أبواق الجوامع القريبة. لم يجد سيارة أجرة فمشى إلى شقته في أزقة المدينة السياحية والتي استيقظ بعض أهلها النشيطين، كانت مدينة لا تنام، يأتيها كثير من السواح الأوروبيين الذين تحمر بشرتهم بلون الوردي للخنزير من أشعة الشمس ويدفعون كثيرا من الأموال ليستمتعوا بأجواء المدينة التي يكرهها كمال أشد الكره، لدرجة بين وقت وآخر يريد أن يصرخ على هؤلاء السواح الحمقى ويسألهم لما أنتم قادمون إلى هنا، ليسرقهم أصحاب الدكاكين الجشعين بأفواههم المعسولة والمحشوة بالأكاذيب ويحلفون بالله وبسيدي قاسم وبسيدي رحال… إنهم يحلفون بأي شيء على كل شيء.

وضع كمال سترته المتسخة ببعض القيء على وجهه، لم يشأ أن يتعرف إليه أحد، ليس لشهرته ككاتب، فقليل من أهل المدينة من يقرأ، المكتبات هنا تبيع الكتب المدرسية والقرطاسية وكل أنواع البضائع إلا الكتب للثقافة فمن سيشتريها، حتى أن من يقرأ هنا من الشباب يكتفون بتحميل الروايات من المواقع المقرصنة، فتستطيع شابة مثلا شراء معطف بألف درهم لكن كتابا بثلاثين درهما يعتبر هدرا. لقد كان محظوظا لنجاحه ككاتب في عالم كهذا.

ارتمى فوق الكنبة فور دخوله للشقة وحين فتح عينيه كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا. لم يعلم متى غط في النوم، كان اللعاب الذي تخمر على الوسادة دليلا على تعبه. وجد عُلا جالسة أمام حاسوبه، لا يدري كيف أشعلته وقد غير منذ أيام كلمة السر. حملقت فيه وعلى شفتها نصف ابتسامة ساخرة قائلة: «انظروا من استيقظ، الأميرة النائمة»

غادر للاستحمام غير مبال لأخته ذات الدم الثقيل، تأتي لزيارته وفقا لأوامر الوالدة التي ترسل له طعاما بيتيا والتمر حتى الفواكه خوفا على ابنها أن يموت جوعا ولم يكن يمانع بل أنه لم يغسل ملابسه يوما؛ يرسلها مع الأطباق الفارغة إلى الوالدة التي تتكفل بها برحابة صدر وتأتي كل نهاية أسبوع لتنظيف شقته.

كانت علا في تركيز تام على شاشة الحاسوب المحمول في حين أن سبابتها تضغط على السهم النازل ببطء، فطلب منها أن تترك حاسوبه لكنها لم تبالي، اقتلعه منها من يديها المفترستين فصاحت: «بالله عليك إني أطالع وحسب»

– «أنت تطالعين؟»

– «إني ألقي نظرة على روايتك الجديدة، لم أكن أعلم أن لديك جانبا حساسا يا كمال»

– «بماذا تثرثرين؟»

– «على الأقل دعني أكملها أو أخبرني لما يحصل لروزانا»

تمتم: «روزانا؟» تصفح صفحات الملف، كانت راوية لكن ليست له، عاد للصفحة الأولى، فلم يجد فيها سوى عنوان عريض ‘رائحة الحب’، فسأل علا: «أين وجدتها؟»

– «بالتحميلات، أليست لك؟» عاد ينظر في الملف الذي لا يتذكر كيف حصل عليه، فهو محب الكتب الورقية، والأعجب أنها رواية من دون اسم كاتب ولا دار النشر، بل الصفحة الأولى مملوءة بالأخطاء النحوية.

جلس ذلك المساء يقرأ صفحات الرواية التي تتعدى ألف صفحة، بالرغم من أنه أسلوب هواة إلا أنه كان مميزا وفريدا. احتوى الكتاب على قصص وأحيانا مجرد خواطر، فاجأته بعض الأفكار وبلحظات احتدمت مشاعره وقد دب في داخله شعور من الحزن الجاف. بحث عن الاسم في الانترنت ولم يجد شيئا واحتار عن مصدرها أو مرسلها.

رن هاتفه المحمول فشحب وجهه حين أضاء برقم صاحب دار النشر. نظر إلى تاريخ اليوم، لقد كان الأجل النهائي لإرسال المسودة الأولى من روايته. وقف يمسح رأسه بتوتر والهاتف لا يزال يرن، دار في مكانه، إذا أجاب ماذا سيقول، فهو لم يخط ولا صفحة واحدة حتى الفكرة في رأسه ضبابية ثم توقف الهاتف عن الرنين. خيم الصمت مع همومه، الدائنون الذين لا يرحمون وصاحب دار النشر الذي صدقه، إن علم بالحقيقة ستذهب سمعته أدراج الرياح ولن يوقع عقدا مع دار نشر أخرى بعدها، لكن عليه في نفس الوقت كسب المال والآن.

جلس وقدمه اليمنى ترقص من تلقاء نفسها، ثم ظهرت في جانب الشاشة رسالة جديدة، حرك السهم ببطء إذ يعلم محتواها مسبقا وفتحها، كانت تذكيرا للموعد النهائي ودعوة لإعادة الاتصال، وأخذت قدمه اليمنى تتحرك أكثر، ويده تلعب بمؤشر الصفحة ثم لاحظ اسم ملف مرفقا بإحدى الرسائل يحمل نفس عنوان الرواية، الرسالة ذات النص الطويل التي حذفها، فتذكر أنه قرأ نصفها، كانت من شخص مجهول يحكي عن حياته بطريقة ترثي النفس.

وضع يده على ذقنه مفكرا، كانت الرسالة من دون اسم حتى عنوان البريد يبدو ملفقا. فكر قليلا، هذا الشخص يبدو في حاجة ماسة، لديه الموهبة لكنه يحتاج لمساعدة ولأحد يوجه. عاد الهاتف يرن لكن هذه المرة شحب لونه تماما، كان وكيل مراهنات يدين له بأكثر من خمسين ألف درهم. ثم عاد ينظر للرسالة التي حذفها، ليس لديه وقت لهذه الأشياء الطفولية، عليه كتابة شيء ما حتى يكسب المال وبسرعة.

أعد القهوة وعلبة السجائر، سيظل عاكفا على المكتب حتى يصنع حبكة كاملة، ربما عليه أن يكتب عن نفسه ثم تنهد ساخرا من يريد أن يقرأ شيئا كهذا، وهذا آخر مطب لكل كاتب على كل حال. تراكمت أعقاب السجائر والصفحة لا تزال بيضاء، كلما طبع شيئا مسحه من فوره، ثم كتب بلا شعور روزانا، كان الاسم لا يزال عالقا في رأسه، ثم استرسل في الكلمات، مر الوقت وقد ازداد عدد الصفحات ثم توقف للحظة.

أخذ تنهيدة عميقة من السيجارة وهو يطالع صفحاته، أطلق نخيرا ساخرا مرفقا بالدخان، لقد كتب نفس الحبكة من أحد أجزاء الكتاب المجهول، حتى أنه لم يغير الأسماء. أصابه يأس شديد ثم عاد الهاتف الملعون يرن، كان صاحب دار النشر؛ إن لم يعطيه ردا سيسوء الحال.

نفس آخر من السيجارة ثم غير الأسماء إلا أنه أحس أن هناك شيئا مفقودا عندها لكنه أبقى على اسم روزانا فلم يستطع إنهاء الكتابة من دونه. إذا قرأ صاحب القصة الأصلي ما كتبه فقد يرفع عليه قضية، «فليفعل» ردد في داخله، بأسلوبه الشخصي وسمعته هذه القصة ستجد لها النور، إنه يقدم خدمة جليلة، «أية خدمة؟ إنها سرقة أدبية» فهز رأسه حتى لا يغلبه تأنيب الضمير الذي لا يعمل إلا في أسوأ الأوقات.

ارتفع صوت طقطقة الأزرار في الشقة الصامتة.

بعد أشهر نشرت الرواية باسمه، كان خائفا من ظهور صاحب العمل الأصلي لكنه كان جاهزا للرد، ربما سيعقد معه اتفاقا، فكر بحوارات مختلفة ومضت سنوات هادئة تحولت الرواية فيما بعد لفيلم سنيمائي وهذا در عليه كثيرا من المال فلم يتوقف عن المقامرة لكنه أيضا لم يعد يكتب، فلم يحتج لذلك.

*******

2. زفة الجنازة

جالسة وسط المكان كتمثال لا تتحرك، انسدلت العباءة من النيلون الأبيض المزركشة على خصلات شعرها الأسود المتموج، أما القفطان الأخضر المطرز بخيوط ذهبية فقد كان فضفاضا وثقيلا عليها وقد زادت الحلي الكثيرة على عنقها حرارة الجو التي تشعر بها فتصبب العرق من جبينها يختلط بمواد التزيين المبهرجة؛ الكحل يثقل جفنيها وأحمر الشفاه الفاسي طعمه كالفاكهة الفاسدة لكن ما وضعته المزينة فوق عينيها شديد الزرقة مع طلاء الخدود الوردي جعلها تبدو كبهلوان. تصلبت يداها المبسوطتان حتى لا تفسد النقش الصحراوي لكن الحناء المخلوطة بالدليو (الكلور) لم تساعدها، فأخذ الخليط يتغلغل في مسام بشرتها يحرقها وحتى تصير الحناء نضرة وأكثر حمرة مسحت النقاشة عملها بخليط من الزيت والثوم فاختلطت رائحته برائحة أعواد البخور التي غرست في ثمرة طماطم ووضعت على الصينية الدائرية إلى جانب قالب من السكر رسمت عليه خطوط بالزعفران ووعاء حنة بالإضافة إلى قنينة العطر الحديدية، روائح اختلط بعضها ببعض. كانت النافذة الوحيدة على يسارها لا تكفي لتخفف عنها الرائحة ولا حرارة الجو أو الحرارة المنبعثة من صدرها لكن مشهد القمر المكتمل أراحها قليلا.

قيل لشاما أن الليلة هي من أجمل ليال العمر، فهي العروس وكل الحفل يدور حولها وبين الفينة والأخرى يأتي بعض الأطفال يسرقون نظرة فضولية، وبعض صديقاتها أو نساء العائلة يهنئنها. كانت تنتظر هنا إلى أن تأتي المزينة ورفيقاتها ليأخذنها لقاعة الحفل، تناهت لسمعها أصوات ‘الطُلبة’ يستظهرون القرآن بسرعة كأنهم يبتلعون الكلمات، تمنت لو يبطئون، لو تمتد هذه الليلة أكثر، لو يتوقف الزمن.

جابت بعينيها الغرفة. ففي هذا المكان قبل عشر سنوات كانت أختها خديجة عروسا أيضا، يومها أحاطت بها نساء القرية ومن بينهن زوجة عمها على اليمين تدهن الحناء على شعر العروس ثم وضعت عليه بيضة بلدية نيئة، أما شاما فكانت تحدق بدهشة في الخلف مع الفتيات الصغيرات، انتبهت إليها إحدى النساء فقالت: «إذن يا شاما، ها هي أختك ستتزوج وتصير امرأة، فماذا عنك؟»

أجابت الطفلة بحماس: «أنا أيضا سأكون عروسا فلم يبق إلا خمس سنوات وسأتزوج»

فتبادلت النساء ضحكات عالية فسألتها إحداهن: «ولماذا خمس سنوات؟»

– «لأنه عندها سأكون في الرابعة عشر كعمر أختي الآن، وسأكون عروسا جميلة مثلها» قالت هذا وهي تحدق إلى أختها بعينين لامعتين بريئتين في حين الأخرى ابتسمت لها ابتسامة شاردة وهي صامتة وسط كل هذه الضوضاء والزغاريد.

‘صدق الله العظيم’ أعلنت نهاية قراءة ‘الطُلبة’ ليبتدئ الشطر الثاني من الحفل.

انقبض قلب شاما فقد صارت خمس سنوات عشرا وتبدل الحماس والفرحة بتوتر وقلق غامرين. ستأتي النساء قريبا ليسحبنها إلى وسط الحشد، تجلس في كرسيها المزخرف بينما هم يرقصون ويغنون، سيضحكون ويمرحون وعليها أن تكون كذلك، فبدأت تحدث نفسها: «أنت عروس اليوم، كل شيء سيكون بخير»

رفضت الزواج ثلاث مرات وقدمت الأعذار الواهية كل حين لكنها بلغت التاسعة عشر وخشيت والدتها أن تصير ‘بايرة’ (عانس). لم تجد عذرا هذه المرة، زوجها المستقبلي يعمل في الخارج من أسرة محترمة تعيش في المدينة وبعد زواجهما سيعد لها الأوراق والتأشيرة لتسافر معه للخارج. كلما حاولت أن تفتح فمها لتخبر والدتها بما تحس تعلق الكلمات في حنجرتها الضعيفة فلا تستطيع إخبار أحد بالسبب الحقيقي لرفضها.

– «لا بأس، سأتزوج وسأعيش حياتي بما لدي ككل الناس، لا بأس بهذا» بدأت عيناها تدمعان وهي تردد لا بأس، ثم اعتراها الخوف فغدا ستكون ليلة الدخلة، ستغادر إلى بيت غريب وتعيش مع أناس لا تعرفهم وهذا الذي سيصير زوجها لم يتبادلا إلا كلمات متقطعة خجولة في مناسبات نادرة وتحت وصاية والدها الحاج عبد القادر.

نظرت إلى النافذة التي تطل على خم الدجاج والأرانب التي كانت تطعمها كل صباح، هدوء تام في الباحة الخلفية عكس ما يحدث تحت خيمة الضيوف، كانت شاما البنت الكبرى في البيت فكانت تتكفل بأغلب الأشغال فيه من الطبخ إلى حلب الأبقار. تعرف كل زاوية وكل جزء من البيت والمزرعة وحظيرة الماشية والحقل…

– «لا بأس، لا بأ…» فجأة سمعت صوت المزينة ورفيقاتها قادمات نحو الغرفة بأصواتهن الخشنة الرجالية، تترافق الزغاريد بأصوات الطعاريج والدف الصاخبة.  تراءى لها كأنهن ملائكة الموت قادمات ليسحبنها إلى عالم مجهول موحش، فما كان لها ألا أن حزمت قفطانها الواسع وقفزت من النافذة من دون أن تفكر ولو لحظة أخرى.

*******

3. جنية القبور

تمزق شربيل الأبيض الذي صار بنيا من آثار الغبار، وتلطخ القفطان بالطين وأتلفت الأعشاب نهاياته المزركشة وأكمامه اتسخت من أثار الحناء التي بدأت تتفتت من يديها المتعرقتين، كل هذا لم يعد مهما. كادت أنفاس شاما تتقطع وهي تجري هاربة وكلما ابتعدت انتابها الندم والحسرة على فعلتها، لم تعرف لمن تلتجئ فلم يخطر ببالها إلا مكان واحد.

وصلت إلى مقبرة الشهداء التي تقع بجانب ناء من قرية ‘الرّزمة’. بدأت تمشي ببطء، بالرغم من الظلمة الحالكة إلا أن مكان ذلك القبر لا يمكن أن يخفى عنها، فهي تزوره مرتين كل شهر. جلست قرفصاء بالقرب منه صامتة لوقت طويل تنظر إلى لا شيء، فهنا يتوقف الزمن وينبعث فراغ هذا العالم، هنا يعيش أناس لا يحكمون على أحد ولا تحكمهم أعراف ولا تقاليد، لا يتكلمون، لا يبصرون ولا يسمعون، هنا الحجر أكثر حياة من البشر، والريح أبلغ من كل لسان، والعشب نما فوق ظلال الأرواح النائمة.

– «خديجة كيف حالك؟ آسفة لأني لم أزرك منذ وقت طويل» ثم مسحت دمعة متسللة على خدها وابتسمت: «فكما تعلمين كنت مشغولة بتحضيرات الزفاف، أصبح لدي الآن ثلاث قفاطين والجلباب الأبيض لو ترينه كان شديد الجمال والحسن، كنت ستحبينه بالتأكيد» ثم اختنق صوتها وهي تقول: «خديجة اشتقت إليك، قولي ماذا أفعل؟ أخبريني»

سمعت أصوات فتيان قادمة من بعيد فهبت من مكانها ثم التجأت إلى الضريح، اختبأت هناك وسط الظلام والصمت المرعب وأصوات أنفاسها الخائفة. لم يكن خوفا من المكان أكثر من مصيرها. تكومت شاما حول نفسها في إحدى الزوايا كان عليها أن تستمر بالرفض وأن تخلق الأعذار، الآن سيفتضح أمرها لا محالة، الآن سيبحثون عنها، ماذا ستقول لهم حين يجدونها. سيقتلها والدها حين يعرف الحقيقة، سينبذها الجميع وتصير عارا على عائلتها كأختها.

فُتح باب الضريح قليلا وانسل ضوء القمر منه عاكسا ظلا مشوها فكتمت شاما أنفاسها في الزاوية المظلمة، تعرفت على المرأة فور دخولها، فقد كانت الخياطة العجوز التي خاطت لها جهاز العرس. أتبحث عنها أيضا؟ تمنت شاما ألا تبصرها إن ظلت ساكنة دون حراك. تقدمت العجوز إلى الجهة المقابلة وبدت كأنها تريد خلع جلبابها لكنه انتزع مع جلدها وانبثق شيء هلامي تحول لامرأة شابة تطفو في الهواء من دون قدمين.

بدا لشاما أنها تحلم وهذا كابوس لا غير، أما المرأة الغريبة فقد مددت ذراعيها واستدارت نحو شاما التي تراقب بوجه ابيّض من الخوف. صرخت المرأة متفاجئة ثم صرخت شاما وكلما صاحت واحدة منهما تجاوزتها الأخرى في حدة الصياح. فأوقفت المرأة الغريبة حالة الهستيرية هذه قائلة: «هذا يكفي، من أنت وماذا تفعلين هنا؟»

أخذت شاما تمتم بالبسملة وسورة الإخلاص التي نسيت كل كلماتها من الرعب الشديد، فاقتربت المرأة والتي كانت عيناها بلون أقرب إلى البنفسجي الفاقع وحدقت فيها ورفعت يديها الطويلتين في الهواء. كثيرا ما كانت تحكي الجدة لشاما عن الجن، عن أشكالهم القبيحة وكيف يستحوذون على جسد الأحياء أو يأكلونها، أغمضت شاما عينيها قائلة: «أرجوك لا تأكليني» لكن فوجئت بالمرأة وقد بسطت يديها على الأرض وقالت متسولة: «العار، العار لا تفضحي أمري»

فتحت الريح الباب على مصراعيه فأضاء ضوء القمر المكان، كان للمرأة الغريبة وجه دائري صغير بخدود وردية وعظمي وجنتين بارزتين، وعيناها البنفسجيتان ذات رموش طويلة تلمع ببراءة وهما تنظران إليها متوسلتين، وشعرها الشبيه بالفضة طويل مسترسل جعل منه ضوء القمر أكثر سحرا. ترتدي ثوبا حريريا أبيض واسعا لا يظهر شيئا من جسدها لكن كفيها الكبيرتين بجلدهما عديم اللون يظهر العروق البنية كمواسير صدئة.

– «أأنت جنية؟» فهزت المرأة رأسها نافية فأعادت شاما السؤال: «ألن تأكليني وتستحوذي على جسدي؟»

أجابت المرأة بتلهف: «أبدا، لو أستطيع استحواذ على جسد لما علقت في جثة العجوز العفنة» فنظرت شاما صوب جلد العجوز فصاحت المرأة: «أوه لا تنظري، إنه ليس مشهدا لطيفا، حتى أنا أتقزز من ذلك، انتظري… ألست شاما ابنة الحاج عبد القادر؟» وحامت حولها في الهواء: «ماذا تفعل عروس في هذا المكان ليلة العرس؟» ثم أضافت بعد شهقة: «أوه انظري إلى القفطان الجميل، ماذا فعلت به؟ هذا حرام فقد أمضيت عشر ليال لتطريزه» ثم اقتربت من وجه شاما: «انظروا إلى هذا الوجه الفظيع، أكنت تبكين؟»

صمتت شاما وعادت إليها هواجسها عن هذه الليلة، كان الخوف من رؤية جن حقيقي أهون بكثير منها، وللحظة تمنت لو أن هذه المرأة جن يأخذها معه. مدت المرأة يدها نحوها ومسحت الدمع المترقرق على خديها قائلة بنبرة صوت حنونة: «لا عليك يا فتاة، لا عليك. أتودين إخباري بما يحصل؟»

– «أتمنى لو أني أموت وحسب»

– «أوه لا تقولي ذلك، فعبير الحب هو ما يقود الناس للعيش. أنت لازالت شابة جميلة وتنتظرك حياة أجمل، أقول ذلك لأنني ميتة» ثم ضحكت كأنها تفوهت بنكتة

سألت شاما بتخوف: «كيف تتكلمين إن كنت كذلك؟»

– «آه أعلم، الوضع يبدو غريبا، هذا إن لم يكن مستحيلا» ثم قهقهت بسعادة واسترسلت تشرح لشاما ما أصابها.

كانت العجوز الخياطة تقوم بسحر أسود لبعض الزبائن الذي يدّعون أنهم قادمون لخياطة ثوب. وذات يوم احتاجت إلى عظمة من قبر لا يجب أن يصلى عليه. سافرت إلى مقبرة أكبر والتي توجد في المدينة الحمراء وبرشوة حارسها وبعض المساعدة منه، حصلت على الجمجمة والذراع، بعدها وضعت الأولى في صندوق تحت الشمس الحارقة لأربعين يوما، أما الذراع فكانت تكسكس به خليطا من الأعشاب المهروسة التي تبيعها.

قالت المرأة مكملة الحكاية: «أنا حين فتحت عيني وجدت نفسي في منزل الخياطة، مثلك حسبتني أني جنية وألقت علي ماء ساخنا وأشياء أخرى لم تنفع بشيء سوى أن رائحتها مقيتة، وبالرغم من ذلك كان لقاء حميميا» وضمت خديها بكفيها كطفلة: «لا أدري فيما ينفع سحرها لكنها كانت تبيعه بأثمنة خيالية»

ظلت المرأة الميتة رفيقة الخياطة منذ ذلك الحين تساعدها في عملها لكنها تعلمت منها حرفة الخياطة أكثر من السحر؛ فبالرغم من أنها لم تكن بشرا إلا أنها لم تمتلك أية قوة خارقة: «الحقيقة أحببت شعوري بالحياة، وحين مرضت العجوز رأفت بحالي وبسحرها ساعدتني على استحواذ على جسدها بعد وفاتها، فعيشنا معا كل ذلك الوقت جعلنا كعلاقة أم بابنتها أو جدتها، إنها عجوز جدا» ثم ضحكت: «كانت سيدة كريمة وطيبة، إذا تركنا عملها المشبوه جانبا، فقد كانت تتصدق على كل متسول يدق بابها، وإن احتاج أهل القرية لأي شيء تقدم المساعدة. وتقدم تبرعات كبيرة باسم مجهول، أتعلمين مؤسسة رياض الطالبة التي بنيت العام الفائت، لولا العجوز لما حدث هذا»

– «وأنت كنت حية من قبل، لست من الجن أو شيء كهذا؟»

– «أوه أرجوك لا تشبهيني بأولئك، إنهم لا يحبونني، الحقيقة لا يحبون البشر ببساطة. فمما سمعت أنهم أخذوا مكانهم بعدما خدعوهم، إذا أردت يمكنني أن استدعي أحدهم لتقابليه»

فصرخت شاما: «أرجوك لا»

– «كم أنتم مضحكين أيها البشر؟ صدقيني أنتم أسوأ منهم بكثير، أه لا أقصدك أنت بالذات، فما رووه لي فظيع جدا»

سألت شاما وقد تاهت من ثرثرتها حول الأمور الغريبة: «ألم تكوني بشرية؟»

تنهدت المرأة وأجابت: «على ما يبدو لكني لا أتذكر شيئا من حياتي السابقة، لا أعرف من أنا وكيف مت ومتى، العجوز أيضا لم تعرف، فكان كل همها العظام وحسب. حتى اسمي لا أذكره لكن يمكنك مناداتي روزانا»

– «روزانا؟»

– «لا أدري لكن من الأشياء التي علقت في بالي كان اسم هذه الفتاة أشعر كأني أعرفها جيدا، وأني مرتبطة بها بطريقة ما، وقد نصحني صديق جني أنه من الأفضل ترك الماضي جانبا. على كل هذا لا يهم، فالمهم هو أني حية من جديد، لهذا لا تتمني الموت مجددا، انظري إلي أتمنى لو أني مكانك» ثم ضمت يديها كفتاة عاشقة قائلة: «أحب كل شيء على هذه الأرض الجميلة، أحب ملمس الهواء على رقبتي ودفء الشمس في يوم بارد ودغدغة نسيم لطيف بليلة صيفية. ربما أعيش في جسد عجوز لكن على الأقل أحس بكل هذا» ثم رسمت ابتسامة مسالمة على شفتيها بلون الكرز: «دعينا مني واحكي لي ماذا حدث لك؟»

خفضت شاما رأسها قائلة: «لا أستطيع الزواج، أخاف أن أصير مثل أختي خديجة» وبعد تردد حكت لها شاما ما حدث.

قبل عشر سنوات وبليلة من ليال شهر غشت الساخن التي كانت ليلة دخلة خديجة ابنة الحاج عبد القادر، وقفت أم العريس وجدتها قرب باب غرفة العروسين في انتظار السروال الأبيض، فحسب العادات يعلق هذا السروال في قصبة طويلة ويجوبون به في أنحاء المنزل للدلالة على إتمام الزفاف. شاما لم تكن تفهم مدى أهمية الأمر، فالجميع يتحدث عن بقعة دم. لكن هذا لم يحدث؛ سرعان ما دخل أهل العروسين في مشادة، والعروس التي كانوا يحتفلون بها طوال أسبوع أكلت الضرب على يد الوالد الذي يلعن حظه وقد ضاع شرف العائلة بأكملها.

قالت شاما: «حينها لم تكن لدي فكرة، أمي كانت تبكي وتلطم وجهها وأختي العروس عادت لبيتنا وأغلقوا عليها الباب. لم أر يوما والدي بذلك الغضب من قبل»

وقفت الأم أمام الغرفة التي تختبئ بها خديجة، أرادت منع الأب من قتلها فصرخت: «إنها ابنتك، ما الأهم ابنتك أم الشرف؟»

– «الشرف!» قالها بثقة وبدون تردد: «الشرف يا غولة! ماذا سيقول عنا الناس؟»

– «أقسم بالله ابنتي شريفة، إنها ابنتك يا عبد القادر»

_ «فليلعنك الله أنت وبناتك على تربيتك» احمر وجه الأب وصار بين نارين، ابنته أم العار الذي سيلحقه، بالرغم من وضوح الجهة الغالبة، كان الجميع يتجه نحو السمعة والشرف.

قالت روزانا بحسرة: «حقا، لا أعلم لما يضع البشر كل هذه الأهمية في طية جلد صغيرة في جسد النساء وببقعة هم يخجلون حتى من ذكر اسمها» وهزت كتفيها: «على كل هنالك كثير من القواعد الغريبة في هذا العالم، أليس كذلك؟ أخبريني، هل عادت أختك لبيت زوجها؟»

حدقت شاما في الزاوية المظلمة نحو الحائط الذي خط به اسم الجلالة ثم قالت بصوت ضعيف: «لم تعد يوما»

حصرت عيون الناس المليئة بالاتهام وأفواههم خديجة في الزاوية فانتحرت بعدها بأيام بتناول سم الفئران. لم يسمحوا لشاما بالنظر فقد حملتها زوجة عمها بعيدا عن النياح والصدمة التي اجتاحت المنزل بعدها. غريب أمر الناس فما فعلته خديجة بنفسها أكدت شكوكهم وزكت نار النميمة بينهم. حين تدخلت الشرطة وقامت بتشريح الجثة، تبين أن الفتاة كانت عذراء حقا وإنما ليست بالطريقة المعتادة إلا أنهم لم يفهموا كيف تكون الفتاة عذراء وهي ليست عذراء. حاول الطبيب شرح الأمر للأهل لكن كل ما فهموه أن ابنتهم شريفة حتى وإن كانت ميتة.

قالت شاما: «صارت هذه الحادثة في طي النسيان وأختي أيضا إلى أن جاء هذا العريس. قبل إبرام عقد الزواج أخذتني أمي إلى طبيب في المدينة من أجل شهادة العذرية وتبين أني مثل أختي. أكدت لي أنها ستكون بجانبي وقالت لي ماذا أفعل يوم الدخلة حتى لا يشك أحد، لكني خائفة جدا، خائفة من كل شيء، من تلك الليلة المشؤومة، من عيشي مع غريب يكبرني بخمسة عشر سنة، وأغلب الظن أني سأقضي العام الأول مع والدته قبل أن أحصل على التأشيرة»

فقد كانت تسمع شاما كثيرا من القصص، كيف تصير العرائس الجدد اللاتي أزواجهن يقضين أغلب السنة في الخارج خادمات لأمهاتهم وأسرهم، لكن أم شاما تريد لابنتها حياة المدينة والأهم لتبعد خيال قصة أختها، إذ كانت تعتقد أن تأخر شاما في الزواج من الآثار المترتبة عما حدث قبل عشر سنوات.

سألتها روزانا: «وماذا ستفعلين الآن؟» لم تفكر شاما بعواقب فعلتها فعادت للبكاء. فارتبكت روزانا قائلة: «أنا آسفة لقد جعلتك تتذكرين أحداثا مؤلمة» ثم أخذت تطوف بالمكان محتارة، ناثرة خلفها رذاذا متلألأ ثم توقفت قائلة: «لا أرى حلا سوى أن تعودي قبل أن يخرج الموضوع عن السيطرة، أولا عليك الحديث مع والدتك فلابد أنها قلقة»

– «لا، لا أستطيع العودة»

– «أوه لا تقلقي، سأذهب بنفسي فالخياطة العجوز تعرف الجميع والجميع يثق بالخياطة»

*******

4. العقاب

أخذت أشعة الشمس الوردية تدغدغ سنابل حقل القمح المخضرة في حين تقدمت روزانا الطريق. صارت الآن بجسد الخياطة تمشي على الأرض، بوجه مليء بالوشوم الزرقاء الباهتة والتجاعيد السمراء التي تشبه أخاديد الأرض الطينية. كانت تعرفها من قبل، امرأة عجوز تغطي شعرها بمنديل تركي مخرّق، وتلبس قفاطين متناقضة الألوان، تضع أغلب الأحيان النظارات الشمسية السوداء، التي لم تناسب لا ملابسها ولا سنها الكبير. صادفتها شاما مرات عدة لكنها لم تتحدث معها من قبل ومن كان يتخيل أن هناك روحا غريبة تسكنها، إلى الآن لا تزال غير مصدقة، يبدو لها الأمر كحلم من تأثيرات البارحة.

لمحت شاما وجوها أغلبهم أفراد عائلتها عند باب الحديدي الكبير مع بعض الجيران، فالتجأت المرأتان إلى الباب الخلفي الصغير الذي فرت منه شاما البارحة. أول من رآهما كان محمد الأخ الأصغر فجرى ينادي على أمه التي جاءت تجري بقدميها المصابتين بالدوالي.

استقبلت حليمة ابنتها بالضربات على الظهر والشعر والخياطة بينهما تصرخ: «العار يا لالة حليمة، العار اتركيها» استلزم إبعادها جهدا وتوسلات من عند العجوز فابتعدت الأم متوعدة: «اليوم سأقتلك بيديّ، هذا إن لم يدفنك والدك حية قبلي»

عادت شاما إلى نفس الغرفة التي كانت مخصصة للعروس وأغلقت حليمة الباب وراءها متخفية عن الضيوف المنتشرين في قاع الدار وخارجها. جلست الخياطة على الأريكة في الزاوية أما حليمة فبقيت تجوب في زوايا الغرفة في توتر. كانت امرأة في أواخر الثلاثينات ممتلئة الجسم لها بطن بارز تمدد ست مرات عدد الأولاد الذين أنجبتهم. استغرقت لحظات قبل أن تسأل: «أخبريني يا منتوفة الرأس، لماذا هربت؟» بقيت شاما على صمتها المخنوق بالبكاء والمخاط المخلوط مع مساحيق التجميل الرخيصة. فأعادت حليمة السؤال: «مع من هربت؟ من ذاك مسخوط الوالدين الذي ملأ رأسك؟ أهناك رجل؟» لم تفهم شاما ماذا تعني وغرست أصابعها في ثوب القفطان الحريري. فقالت حليمة: «باللّه عليك يا ابنتي، أخبريني لما فلعت ما فعلت؟»

فتدخلت الخياطة: «هيا يا شاما قولي لها ما أخبرتني به»

تمتمت بكلمات متقطعة لكن حليمة استوعبت الأمر بسرعة وأمسكت رأسها قائلة: «يا غليظة الرأس، لقد زدت الطين بلة»

لحظتها فتح الحاج عبد القادر الباب على مصراعيه ودخل متوجها نحو شاما مباشرة فوقفت حليمة تحاول تقبيل يده في رجاء: «هي لم تقصد يا الحاج، أنا مزاوكة فيك»

– «ابتعدي عن الطريق، أين كنت؟ أين قضيت الليل يا مسخوطة؟» اختبأت شاما خلف والدتها فأجابت الخياطة: «معي أنا، فكما ترى قد جئت البارحة لأعدل بعض الثياب ووقعت، لولا شاما، الله وحده يعلم ما سيحدث لي»

– «أتريدين أن أصدق ما تقولين يا لالة شريفة؟ امرأة بمقامك عليها أن تخجل من هذا»

– «وحد الله يا الحاج هذه ابنتك»

– «هذا ليس من شأنك يا امرأة!» فصدمت الخياطة من نبرة صوته الجافة وصمتت.

وسط الدار أخذ الضيوف يغادرون بعد إلقاء نظرات فضولية مع بعض الهمس التي تتضوع رائحة نتانته في الجو، أما زوجة عم شاما العالية فقالت بصوت واضح غير مبالية: «يقولون لك ثق في الهرهوري ولا تثق بالسكوتي» ملقية نظرة خبيثة نحو حليمة، فقد كان بينهما عداء قديم.

لم يكتفي الحاج بالصراخ والحبس في البيت وإن لم يضرب شاما، حبسها بالمخزن الذي يقع خلف الاسطبل حتى ينظر في أمرها وهو الذي لم يعد يستطيع مقابلة أي أحد من شدة عاره وقد أصبحت سيرة شاما على كل لسان وأعادت فضيحة خديجة إلى الواجهة، فصارت سمعته في الحضيض وشرفه الملوث صار أكثر سوادا.

*******

5. خدعة العذرية

اختارت شاما بقعة عند ثقب في الجدار، تطل منه لترى جزء من السماء وأحيانا أرجل الدجاج والغنم السارح. كانت أمها تأتيها بالأكل وتقول لها أن الأمر لن يطول فسيحن قلب أبيها عما قريب، وأحيانا تذكرها بما صنعت وأن عليها الصبر إلى أن تجد حلا للمشكلة التي خلقتها. كان لشاما أربع إخوة أصغر منها سنا، اثنين منهم كانت تحس بأنهم ليسوا من عالمها وأحيانا أنها خادمتهم، والأكبر مات قبل أن يكمل عاما حتى أن صورته في ذاكرتها ضبابية ولم يبق سوى محمد، الأصغر بينهم والأقرب إليها، كيف لا وقد ربته بيديها فلا تزال تذكر يوم ولادته كأنه البارحة. يأت كل يوم قبل المغيب يروي لها ما حصل في البيت لهذا النهار، كل مرة يؤكد لها أنه سيخرجها بل حتى أنهما سيهربان معا إلى المدينة لكن شاما تبتسم له وتعيد عقله إليه، فجزء منها يعترف أنها تستحق هذا وكما قالت أمها ما عليها إلا الصبر فسيلين والدها فهو دائما يعود عن غضبه.

أما أكثر ما كان ينسيها وحدتها في ذلك المكان فكانت روزانا تأتي وتؤنس وحدتها بهيئتها الحقيقية. كانت شبحا يحب الثرثرة وتروي نكتا شديدة الغباء، المضحك فيها هي ضحكة روزانا قبل أن تكمل واحدة. لم تكن شاما تضيء المصباح بحضرتها فقد كان بريق جسدها الشبحي مضيئا كالقمر في ليلة صافية، وعينيها لامعتين كجوهرة نفيسة.

كانت شبحا يحب الغناء أيضا لكن صوتها كرنين الكؤوس المتهشمة رقيق ومؤذ لحاسة السمع. استسلمت شاما للأمر الواقع فإذا أخذت روزانا تغني فلن يوقفها أحد حتى عزرائيل نفسه، وكانت تعتز روزانا بذلك فلقد انسلت من بين يديه وها هي لا تزال تجوب في أنحاء الأرض. كان الجلوس معها وقتا حلوا وأكثر متعة من الجلوس مع الأحياء. فسذاجتها وحبها لكل شيء بالرغم من أنه عادي يجعلها أكثر حياة منهم.

جاءت الليلة كهبوب العاصفة حتى أنها أخافت شاما قليلا قائلة: «أتعلمين ماذا حدث اليوم؟ لقد حصل شجار كبير»

أجابت شاما غير مبالية: «تقصدين الشجار الذي كان بين أمي وزوجة عمي العالية؟ لقد سبقك محمد وروى لي كل التفاصيل»

– «تلك العالية أنها حقا مثيرة للمتاعب كيف تتشفى بوالدتك بتلك الطريقة؟»

 – «إنهما على هذه الحال منذ الأبد، منذ حادثة الكانون»

– «الكانون تقصدين الموقد الطيني»

ضحكت شاما قائلة: «قد روت لي أمي ما حدث إنها حادثة سخيفة جدا» لكن روزانا ظلت تحلق حولها وتتوسل فاستسلمت شاما وحكت لها ما حدث قبل عشرين سنة.

كانت حليمة ساعتها لا تزال العروس الجديدة في بيت الحاج التامي أبو الحاج عبد القادر. لم تكن قد أكملت سبعة أيام حين قامت حماتها بتقسيم أشغال البيت بينها وبين الكنة الأولى العالية. ابتدأ الصراع يوم ‘الحزام’ حيث تقوم الكنة الجديدة بإعداد خبز ‘المسمن’ حسب العادات وسلق عدد كبير من البيض. تأتي نساء القرية ذلك اليوم لتناول الكسكس، وفي العشية يقمن بتذوق ما أعدته العروس الجديدة ومن ملمس رغيف المسمن ثم يحكمون هل هي امرأة ‘حاذقة’ أما لا. تعلمت حليمة أشغال البيت منذ نعومة أظافرها وكانت المخبوزات من الأشياء المسلمة بها. لكن كل ما تذوقته النساء من المسمن هو الملح، ورأت تلك الابتسامة الخبيثة على وجه العالية الكنة الأولى فعرفت أنها هي من أضافته إلى العجين في غفلة منها. بعدها اتضح أن العالية من النوع المستبد والاستغلالي، فتترك أغلب الأعباء البيتية عليها وتأمرها كخادمتها.

وذات ليلة مظلمة، استفاقت حليمة على غير عادتها قرابة الساعة الثانية صباحا وأحست بحركة غريبة في البيت فتوجست أن تكون قد تركت باب الحظيرة مفتوحا. ارتدت ردائها وخرجت تحت جنح الظلام. عند الباب لمحت العالية تتسلل إلى الخارج كلص، وهناك رأتها تقوم بذلك.

فسألت روزانا بتلهف: «ماذا فعلت؟» أجابت شاما: «لقد فعلتها قرب الموقد الطيني» وضحكت أما روزانا لم تفهم تماما.

في ذلك الوقت، لم يكن في المنازل مراحيض، فكان على أي أحد ليقضي حاجته الخروج إلى بقعة مخصصة في الخلاء. لكن العالية تلك الليلة أحست بالخوف الشديد ولم تستطع الاحتمال إلى الصبح، فخرجت قرب الموقد الطيني وقضت حاجتها في بقعة جانبية وغطت عليه الرماد وقد خططت أن تستفيق قبل الجميع وتجمع الرماد لترميه في الخلاء. لكن حليمة أفاقت قبلها وأحضرت حماتها لتريها ما فعلته كنتها الأولى، فما كان للحماة إلا أن نشرت الخبر بين الجميع حتى الرجال صاروا يعلمون ما فعلته العالية.

علقت روزانا: «أوه يا إلهي هذا فظيع جدا»

– «من أمي أم العالية؟»

– «كلتيهما، الآن هذا كل ما سيخطر ببالي كلما التقيت بالعالية»

– «إليك الأفظع ما في الأمر، في إحدى الشجارات المعتادة بينهما، صرخت أمي أن العالية هي من بدأت هذا، يوم وضعت الملح في عجين المسمن، فأنكرت زوجة عمي الأمر تماما. وبعدها اتضح أن الجاني الحقيقي كان جدتي، أرادت الحماة أن تجعلهما عدوتين لدودتين حتى لا يتكاثفا ضدها وتظل المسيطرة على البيت، وقد ظلت كذلك إلى يوم وفاتها، الله يرحمها»

فقهقت روزانا: «إني أحيي جدتك على هذا»

وظلت تلك الليلة تحكي لها عن جدتها، الحاجة غضيفة، المرأة النشيطة، فبالرغم أن عمرها تجاوز السبعين كانت تقطع أغلب المسافات على قدميها. تأخذ المال من أولادها ثم تذهب عند كل السحرة المعروفين لتجلب تعاويذ لبناتها حتى يسيطرن على أزواجهن وفي نفس الوقت تعاويذ ليظل أولادها تحت إمرتها.

قالت روزانا مفكرة: «ربما كانت صديقة للخياطة شريفة؟ خسارة أنها ماتت قبل أن ألتقيها، تبدو شخصية مثيرة للاهتمام»

أجابت شاما بنبرة اشتياق: «إنها كذلك» بالرغم من صرامتها، كانت جدتها شخصا يُعتمد عليه حيث أن والدتها لم تكن تستطيع الخروج كما يحلو لها إذ يجب أن تأخذ إذن الحاج عبد القادر، فكانت جدتها من تأخذها لطبيب إن مرضت وتشتري لها لوازم المدرسة، تذكر أنها احتاجت كتابا مدرسيا نفذ من السوق، فجابت جدتها كل مكتبات المدينة حتى تحضره لها.

كان اليوم السابع الذي تقضيه شاما بالمخزن، تمنت لو يأتي والدها لرؤيتها وتعتذر بندم شديد وستقبل يديه وقدميه أيضا. كانت تحس بالاختناق، وذلك الثقب في الجدار لم يعد يكفيها فتمنت لو أنها كروزانا التي تخترق الجدار كأنه لا شيء. هدأ المكان بعد الغروب وصار المخزن أكثر وحشة هذه الليلة حتى شعرت بأن التنفس صعب عليها.

أتت روزانا عند منتصف الليل كعادتها، ووجدت شاما تحت اللحاف في الزاوية، نادتها لكن الشابة لم يكن لديها من القوة لتجيب. فصاحت روزانا: «أوه ماذا حدث لك؟ حرارتك مرتفعة يا فتاة» ثم خرجت مسرعة لتلبس جسد الخياطة وتنادي على المساعدة.

أخرج عبد القادر شاحنته في حين حمل الأخوين الأكبرين شاما فوق أكتافهما، تبعتهما حليمة لاهثة، حتى منديل الرأس كان أعوجا فقد وضعته على عجالة وإلى جانبها الخياطة. كان مستوصف القرية بعيدا لكن المشكلة الأكبر أنه كان مغلقا، فقال عبد القادر: «لقد قلت لك علينا أن نصبر للصبح»

فقاطعته حليمة صارخة: «لن نترك الفتاة تموت بين أيدينا، فلنذهب للقلعة الحمراء»

– «لن نصل للقلعة إلا بعد طلوع الشمس»

– «أنت السبب لو سمعت رجائي»

– «لا حول ولا قوة إلا بالله، منك البلاء أنت وبناتك، هذا شرفي، هذا شرفي يا بنت الحلال» وأمسك بجبينه.

– «ومتى صار الشرف أثقل من الدم؟» قالت الخياطة وتقدمت نحو الحاج، «وماذا تخطط بعد هذا، أن تدفنها كالتي سبقتها؟ أقاويل الناس صاخبة لكن اسمع لضميرك ماذا يقول؟ لا أملك أبناء لكن ألا تقولون إنهم قرة العين والقلب أم لأنها بنت سينقص هذا من محبتك لها؟ ما ذنبها؟ أنك تعلم علم اليقين أنها لم تفعل سوء» وأما شاما فنظرت لوالدها بنصف عينين مغمضتين نالهما التعب وهو لا يزال حائرا وضائعا.

 ورانت في الجو لحظة صمت لم يكسره سوى صوت محرك سيارة صدئ ترجلت منها العالية وزوجها اللذان علما بالأمر متأخرا.

سحبت العالية من جيبها هاتفا محمولا قديما من مريلة المطبخ المربوطة تحت جلبابها الفضفاض ومدته لمحمد: «ابحث لي يا ولدي، عن الطبيبة رقية» ثم نظرت إلى حليمة: «هذه الطبيبة سيدة ذات قلب طيب، أعرفها منذ وقت طويل. ستأتي بسرعة إن شرحت لها الأمر» فأمسكت حليمة بيدها: «الله يسترك عليك دنيا وآخرة»

– «ماذا تقولين؟ شاما مثل ابنتي» كان موقف العالية ليس بغريب، فبالرغم من الخلافات بين المرأتين وأحيانا تشفّي الواحدة بمصائب الثانية إلا أنهما عند الضرورة يتناسيان كل شيء.

تأتي الطبيبة من المدينة إلى القرية كل يومي ثلاثاء وخميس، وعلى الرغم من هذا جاءت هذا اليوم وقبل طلوع الشمس بعدما اتصلت بها العالية وشرحت لها الموقف. كان شعرها مصبوغا ومصففا بشكل ذيل حصان وتضع نظارات مستطيلة رقيقة تناسب شكل وجهها الحاد، والرداء الأبيض الأنيق الذي زاد قامتها طولا يثير في المرء رهبة تلميذ في الصف الأول من معلمته الجديدة. كشفت على شاما مع طرح أسئلة عن تغذيتها وتوضح أنه مرض ناتج من سوء التغذية وعدم التعرض للشمس بما فيه الكفاية وقد فاقم التوتر والضغوطات الأعراض المرضية.

عاملت الطبيبة شاما بود حتى ارتاحت لها، واستفسرت عما حدث من والديها أيضا، فشرحت حليمة كل شيء بدء بما حدث لابنتها خديجة وتأثير ذلك على ابنتها الصغرى التي رفضت الزواج الآن.

نهضت الطبيبة من مقعدها خلف المكتب الخشبي وجلست أمامهم وقالت: «أنا لا أحبذ الكذب على الناس، وأرى أن خرافة العذرية هي التي سببت هذه المأساة لعائلتكم وإن لم تكن السبب الوحيد»

سأل الحاج: «وأي خرافة يا دكتورة؟»

– «يا سيدي، لقد تعلمنا منذ الصغر أن عذرية النساء مبنية على ركيزتين، الأولى أن العذراوات ينزفن في أول جماع والثانية هي نتيجة الأولى وذلك يعني أن غشاء البكارة يُدّمر. فمعظم الناس يعتقدون أن هذا الغشاء نوع من الأغلفة البلاستيكية التي تغطي فتحة المهبل، وبهذا الشكل يخيل إلى الجميع أنه في غاية الهشاشة ويسهل تدميره»

وارت حليمة وجهها خجلا مما تسمع وتنحنح عبد القادر مديرا وجهه من الكلمات قليلة الحياء التي تنطق بها الدكتورة. فأكملت شارحة بنبرة أكثر حزما: «لا حياء في العلم، ما أتحدث عنه هو بنية تشريحية، فغشاء البكارة أشبه بربطة شعر، يتكون من أنسجة خلقية على شكل حلقي أو هلالي مع فتحة مركزية في الوسط، وقد يكون به عدة ثقوب وهذا ما يجعل إجراء فحص العذرية في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا لدى بعض النساء اللاتي يتمتعن بغشاء مطاطي لهذا لا ينزفن عند أول جماع أما الأخريات فقد يتمزق قليلا لكن هذا لا يجعله يُفقد للأبد. نصف النساء في العالم لديهن غشاء مطاطي أي لا ينزفن، بعبارة أخرى أن فحص العذرية ليس له معنى بالأساس»

انصدمت شاما مما تقول الطبيبة فنصف نساء العالم مثلها، وأضافت: «المذهل في الأمر أن هذه المعلومة معروفة في الوسط الطبي منذ أزيد من قرن حتى أن طبيبتين أوروبيتين تتحدثا عنه في مؤتمر علمي عالمي بعنوان ‘خدعة العذرية’، قالتا إن الاضطهاد الجنسي للمرأة يأتي من شيء أعمق وأكبر من سوء فهم بنيوي لغشاء البكارة، إنه يتعلق بالسيطرة الحضارية والدينية على حياة المرأة الجنسية» وتنهدت الطبيبة قائلة بعبوس: «لا أستوعب هؤلاء الأطباء الذي يوافقون على إجراء هذه الفحوصات المهينة أو شهادة العذرية التي تطلب مع وثائق الزواج في بعض البلدان أو حتى للحصول على عمل»

فقالت حليمة: «إن هذا ما أراده الله يا دكتورة» أرادت شاما أن ترد وهل أراد الله أن يحدث ما حدث لخديجة لكنها لاذت بالصمت.

أجابت الطبيبة: «أنا لا أجادل في الدين فذلك ليس اختصاصي، ما أقوله إن علميا فحص العذرية المهين لا أساس له. برأيي ما هو إلا خدعة للسيطرة على النساء منذ القدم. إذا أردت أن تعرف هل الفتاة عذراء أم لا، ما عليك إلا أن تسألها فالأمر شخصي أولا وأخيرا، هو شيء لا نستطيع التحكم فيه أساسا»

قال عبد القادر: «إذن يا دكتورة، لماذا لم يخبرونا بهذا من قبل؟ لا أحد شرح لأمثالي هذه الحقيقة»

أومأت برأسها متفهمة: «معك حق، للأسف لا توجد توعية كافية في هذا الموضوع بالرغم من أنه يسبب مآسي في العائلات ويوقع بأرواح، والمجتمع بأعرافه أيضا لا يساعد» ووضعت يدها في يد حليمة وقالت: «وهذه نصيحة مني، إليكما كوالدين، فلتعرفا أولا ما تريده ابنتكما، عليكما الثقة بها أكثر وإعطاءها مساحة لتستطيع بناء مستقبلها، أنا متأكدة أنكما تريدان الأفضل لها» نظر والدا شاما لبعضهما وشدت حليمة على يد الطبيبة أكثر وأومأت برأسها.

*******

6. هو السبع الواعر وهي المطيشة الخايبة.

ابتسم الصباح، وتسللت أشعة الشمس إلى بهو البيت وأثاثته البسيط؛ طاولة خشبية عليها قطع من قماش بألوان مختلفة ومجموعة وسائد على الحصيرة مهترئة. علقت فوق الباب لوحة نقشت عليها آية الكرسي بخط عثماني أصيل، وعلى الحائط المقابل، كنبة حمراء مصممة بطراز أوروبي لا يتوافق مع لون الجدران الإسمنتي بالإضافة إلى كثير من الديكورات الغربية والمتنوعة التي لم تر شاما مثلها من قبل، كالتماثيل الخزفية والكرة البلورية التي بها رجل ثلج يرقص، وآلات موسيقية فقد كانت صاحبة البيت تشتري أي شيء يعجبها أو يثير انتباهها.

أعدت شاما إبريقا من القهوة المعطرة بالزنجبيل وأضافت الفلفل الأسود، في حين كانت طقطقة ماكينة الخياطة تجتاح صمت الدار وفي كل زاوية مجموعة من جلابيب وقفاطين، سترات وفساتين من مختلف الألوان والطراز. كانت روزانا بيدي الخياطة متمكنة من حرفتها، تعمل نهارا حيث يأتيها كل يوم زبائن من نواحي القرية كلها، بعضهن نساء يأتين من أجل الثرثرة لا غير، وفي المساء تجوب روزانا محلقة بين الحقول بهيئتها الشبحية، من الوادي إلى التلة الكبيرة، فهي كائن لا يعرف النوم.

اقترحت الخياطة على شاما أن تصير مساعدتها فوافقت والدتها فإن لم تكن ستتزوج فالأفضل لها أن تتعلم حرفة تطعمها بدلا من زوج. فوفقا للوالدة، للرجل هنا على نسائه واجبان لا أكثر سترهن وإطعامهن. أما الوالد تراجع عن قراره بالرغم لا يزال ممتعضا ولا يبادل الحديث في هذا الشأن. وهكذا أصبحت تزور بيت الخياطة كل يوم لتتعلم منها الحرفة.

حملت شاما الأبريق إلى جانب الخبز الساخن وصحن الزبدة البلدية إلى مشغل الخياطة، وفور دخولها لوحت لها روزانا بقفطان أكملت حياكته الأولى للتو قائلة: «سأضع له تطريزة هنا عند الصدر، وبعض الزركشات في الكمين، سيكون لوحة دافنشي الجديدة» تمتمت شاما متسائلة: «ديفينشي؟»

– «إنه شيء إيطالي أو ربما شخص، لقد خطر في بالي فجأة، ومن يهتم؟ أتودين أن تتكفلي بتطريزه هذه المرة؟» كانت شاما تتعلم على قطع من القماش لكنها كانت تعلم أن ليس لديها يدي خياط. تحاول روزانا تعليمها بطريقتها غير أنها دوما تنس النقطة الأساسية وتنهض لتعد رسمة لتطريز جديد بعد أن تأتيها الفكرة كالمجنونة، فمهارتها الكبيرة جعلت منها معلما سيئا.

صاحت روزانا فجأة: «أوه لقد نسيت لم يتبق لدي خيط باللون السماوي، وأيضا أحتاج لحزمتين من الخيط الحريري» ثم قررت: «فلنذهب إلى السوق الكبير»

– «أليس عليك أن تنهي قفطان فاطمة اليوم؟» لم تبالي روزانا بما قالت ووجدت شاما نفسها تستقل سيارة الأجرة الكبيرة برفقتها.

انطلقت العربة وهي تهتز طوال الطريق، جلست شاما إلى جانب النافذة تراقب الجبال البعيدة والفجوات الترابية بينها. لم يتبق من دموع الوادي المتحجر غير بقعة ماء وحيدة بين الصخور والأحجار المزدحمة على جنباته، ستتبخر بعد بضعة ساعات وترتفع القطرات إلى السماء تتبدد تحت شعاع النهار الحار لكنها كافية للطفلة حتى تقول لأخيها التوأم: «انظر إنه وادي مليء بالماء!» أجاب الآخر بحماس: «الوادي، إنه الوادي»

لم يكن للطفلين الصغيرين مكان خال في سيارة المسافرين، فظلا واقفين يتشبثان بظهر الكرسيين خلف الخياطة وشاما اللتين تجلسان في الأمام. لم يأبه الطفلان للازدحام ولا إلى نخير المحرك العجوز الذي يشبه آهات الاحتضار، فعيونهما تسرحان إلى ما خلف الزجاج من سفوح وتلال ذهبية، رُسمت عليها بالكستنائي خطوط تنحني وكأنها رؤوس ريشة فنان لا بداية لها ولا نهاية لا تلتقي أبدا لكنها تلف الأرض معا بتناغم. عادت الطيور المهاجرة أسرابا من رحلتها الشتائية ورست على شجيرات الزيتون المتناثرة على جنبات الطريق وسرقت انتباه الصغيرين اللذين أخذا يشيران بأصابعهما لبعضهما البعض لكل طير على حدى وقد دخلا في نقاش حين سأل الفتى أخته: «هل هذا الطير ذكر أو ذكرة؟»

– «لا نقول ذكرة بل نقول أنثيي أنثوى» ثم استسلمت الصغيرة حين لم تستطع نطق كلمة أنثى واكتفت بقول: «أظنها ذكرة»

– «هذا ذكر وهذه ذكرة، كما نحن عليه فأنا ذكر وأنت ذكرة» ثم أخذ يعيد جملته الأخيرة، فبما أنهما توأمين من جنسين مختلفين فقد كانا أهلهما دائما يذكرانهما بهذا الفرق فجعلا من الأمر لعبة، فحين يلمحان أي طائر أو حيوان يحاولان تحديد هل هو ذكر أم ذكرة على حسب فهمهما. قال الفتى بحماس: «أنا ذكر أنا واعر أنت ذكرة»

أجابت الفتاة بابتسامة: «أنا ذكرة أنا خايبة»

– «أنا ذكر أنا سبع واعر جدا»

– «أنا ذكرة أنا المطيشة الخايبة»

يستطيع السامع أن يفهم حماسة الصبي وابتسامته لكن لا يستطيع إدراك ابتسامة الفتاة وضحكها كلما أرفقت جنسها ‘ذكرة’ بتعبير دنيء. كل من في السيارة قد لا يأبهون بحديث الطفلين لكنه حديث منطقي إلى حد كبير بالنسبة لكل واحد منهم، الطفلان توأمان متشابهان في كل شيء، يلعبان مع بعض طوال الوقت ولكنهما يدركان الفرق بينهما فقد أصر كل من حولهما بتذكيرهما أنه هو السبع الواعر وأنها هي المطيشة الخايبة.

*******

7. الفقيه الذي لا يبتسم

نزل المسافرون في المحطة المؤقتة التي تقام جانب السوق الأسبوعي، خيمات تراصت من بعيد وعربات مكتظة بالبضائع والزبائن وهناك من اكتفى بفرش لحاف قديم ليعرض السلع التي لديه. صيحات الديكة وثغاء الخراف يمتزج مع ثرثرة الناس غير المفهومة. انطلقت روزانا كالطفلين اللذين كانا بجانبها، بمشية سريعة مرحة لا تناسب جسد العجوز التي تسكنها، وبدل أن تدخل إلى ممر بائعي الأثواب وأدوات الحياكة، سرحت بين عارضي الخردة القديمة، أغلبهم يعرضون سلعا قادمة من الخارج، إيطاليا بالتحديد، أحذية، أدوات الكترونية أواني، أثاث حتى الملابس البالية التي تباع بخمس دراهم للقطعة، كل ما يتخلص منه الأجانب يعرض في أسواق القرى هنا.

ابتاعت روزانا مجموعة صحون رسم عليها أناس تبدو وجوههم كالهررة المنتوفة، لا تفهم شاما ما الجميل فيها. سرحت بنظرها حيث تواجد عدد كبير من باعة القرطاسية والكتب، فقد كان الموسم الدراسي الجديد على الأبواب. توقفت شاما عند أحدهم تتفحص بعينيها الكتب القديمة والدفاتر المزخرفة، كانت تحب هذا الوقت من العام حين كانت بالمدرسة وخصوصا رائحة الكتب الجديدة، وأيضا حاملة الأقلام التي تكون مملوءة بالشهر الأول إلى أن تضيع الأقلام والملونات بطريقة سحرية وانتهت تلك الفترة من الطفولة كالسحر أيضا.

وجدت أيضا بعض قصص الأطفال منها زهرة النرجس وعروس البحر التي كانت أول ما قرأت. لاحت روزانا من خلفها قائلة: «أتودين شراءها؟»

هزت شاما رأسها نافية: «لقد قرأتها حين كنت صغيرة»

– «أوه حقا؟ لو أني أعرف القراءة أيضا لكن دماغ الخياطة العجوز لم يتعلم هذه القدرة. عماذا تتحدث؟»

– «لن تحبيها فنهايتها مأساوية، تتحول حورية البحر إلى زبد بعد أن ينساها الأمير»

– «وإن يكن أريد أن أسمعها منك» واقتنت مجموعة من القصص قائلة: «سوف تقرئينها لي، أليس كذلك؟» وقالت روزانا وهما يمضيان بين الخيم: «برأيي تبدو الكتب مناسبة لك أكثر، أعلم أنك لا تحبين العمل بالإبرة»

– «ليس وكأن الأمر ممكن»

 هتفت روزانا: «لا تقولي ذلك أبدا، إذا رغبت في الدراسة حقا فلا شيء سيوقفك» اكتفت شاما بالابتسام ولم ترد فكل شيء يبدو سهلا للأشباح.

أكملت شاما السلك الابتدائي وكانت تسعى للتسجيل في الإعدادية بالرغم من أنها بعيدة عن القرية، لكن والدتها ذاك العام كانت قد أنجبت للتو محمد وأصابها المرض. فكان الأمر سببا كافيا للأبوين لتلزم ابنتهما المنزل وتحمل أعباءه كما أن والدها يرى أن الإعدادية مكان يكثر فيه الانحراف حيث تتعلم الفتيات أفعال السوء.

لمحت روزانا تجمعا من النساء حول نصف خيمة فقالت: «انظري إنه فقيه، ما رأيك بالذهاب لقراءة طالعك؟»

ترددت شاما قائلة: «لا أظنها فكرة جيدة وخصوصا بالنسبة لك، أعني أنك…»

– «لا تقلق أغلب هؤلاء دجالون، إني أذهب لأستمع لأكاذيبهم الممتعة على الدوام» ثم سحبتها من يدها.

لم يتجاوز عرض الخيمة ثلاث أمتار أما ارتفاعها فمتر ونصف لا تكفي لأحد ليظل واقفا فلابد ولدخولها أن ينحني الزبون. كان لونها ذات يوم أبيض قشدي لكنه صار بين الأصفر والبني، رقعت بعض ثقوبها وظل البعض الآخر مفتوحا على السماء. جلس الفقيه في جهة الحائط على وسادة عليها جلد خروف قديم، كان الفراش باليا مرتقا واتخذت بعض النسوة كراسي بلاستيكية للجلوس عليها وأخريات بقين واقفات أمام الخيمة منهن شاما وروزانا. أما اللاتي اقترب دورهن فقد أخذن كراسي خشبية قصيرة، بعضها مكسر لكنه كان كافيا حتى لحمل السيدة البدينة التي جاءت بكنتها وطفلها الرضيع. ارتفع البكاء فوجدته سببا لتقول لمن عليها الدور إن كان بإمكانها أن تأخذ دورها ثم قربت الرضيع والذي لم يكمل ثلاثة أشهر قائلة: «لقد فعلت كما أخبرتني، انظر إليه»

تفحص الفقيه رأسه وقال: «لقد تضخم رأسه كثيرا، ألازال يغيب عن الوعي؟» فأجابت المرأة بالنفي.

كان الرضيع مصابا بما يسمى ‘أم الصبيان’ وهو على حد قول الفقيه أنه حالة تلازم الأطفال الذين تصيبهم العين، إذ يغيب الطفل عن الوعي تماما لمدد متفاوتة كل مرة وليس في جسده علة أو مرض، يقال أنه مس من الجن الذي يمتص روح الطفل ببطء، وإن تكررت الحالة كثيرا ومرت عليها السنوات من دون تدخل فإن الطفل يموت.

أخذ الفقيه ولاعة يشعل على أصابعه المتيبسة ثم يكوي بها مساحات صغيرة على جوانب رأس الرضيع البيضوي وهو يتمتم بشي ما. ثم غطس قلمه الذي صنعه من القصب في الصمخ(المداد) وأخذ قطعة ورقية مستطيلة من كومة ورق ممزق من مذكرة، يخط أحرفا بالعربية على أقصى يمين الورقة وخطوطا مائلة فيما تبقى من السطر ونفس الشيء في السطر الذي يليه، كان يبدو للنسوة أنها كتابة وبعضهن يقول إنه اسم الله وآيات قرآنية وبالنسبة للرائي المتعلم فهي سوى طلاسم لا هي رسم ولا هي كتابة تُقرأ.

دخل تاجر يرتدي جلبابا من القطن الأخضر، اختار لباسه وفق طقس الصباح البارد، فالتجار يأتون إلى السوق قبل الفجر غير أن الرجل لم يضع حسابا لوقت الضحى حين ترتفع الشمس في الأفق وتضخ بحرارتها على الرؤوس. ألقى التحية على الفقيه وجلس على كرسي في الزاوية بعض الوقت فلم يشأ أن يخالط النسوة، وبعد انتظاره فضّل العودة فيما بعد، فالرجال أيضا يأتون لزيارة الفقيه لكن في أوقات مختلفة.

كتب الفقيه من أجل الرضيع ثلاث ورقات وقد خط على ظهر كل واحدة منها بقلم حبر جاف أزرق لما تصلح قائلا: «هذه ذوبيها في الماء ثم أشربيها للطفل، وهذه فعلقيها على صدره» أما الأخيرة فمزقها قليلا لأربع قطع دون أين يفرقها: «بخريه كل مرة بواحدة من هذه» ثم أعطاها ورق البخور الذي يمثل الوصفة الطبية وقد كتب عليها أربعة نباتات وأحجار توضع في الجمر مع الفحم؛ ‘الشييب’ ‘الجنبل’ ‘القزبر’ ‘القطران’ و’البنصر’ وأضاف آمرا: «اخلطي بعضا مع الكمون والزيت وضعي قطرات منه في فمه» وأكد للمرأة مضيفا: «لا تعطيه الخليط إلا بعد تصفيته جيدا» دفعت المرأة ورقة نقدية من فئة عشرين درهم ثم قبلت يد الفقيه ورأسه من أجل البركة.

عندما لمحت روزانا كرسيا خشبيا فارغا دفعت بشاما إلى الداخل في حين تقدمت امرأة أخرى نحو الفقيه قائلة: «أريد منك يا سيدي الفقيه أن ‘تهز الخط’ لابنتي»

– «هل هي متزوجة؟»

– «نعم منذ سبع سنوات»

– «لها أولاد؟»

– «أربعة»

– «زوجها في إيطاليا أو إسبانيا؟»

– «إيطاليا، إنها تشك أنه خارج عن الطريق المستقيم»

– «لا، السيد شريف»

– «لا يرى نساء أخريات؟»

– «كلا، ابنتك هي المشكلة» ثم خط على ورقيات وقال: «بخريها بهذه ليعودا في تفاهم، الرجل ليس به شيء أما ابنتك فعليها الصبر وألا تسيء الظن به وإلا ستخرب زيجتها» ثم سألت كأنها نسيت: «بالنسبة لابنتي الكبيرة التي حدثك عنها، هل اشتري لها طلاية واحدة (غطاء صغير للرأس)؟»

– «طلاية واحدة ومرآة وأربع مرشات وذوبي الورقة التي أعطيتك إياها في الماء الساخن لتصبه عليها ثم صبي ذلك الماء في طريق العبور أو في تربة الحديقة»

– «حاضر سيدي» ثم قبلت رأسه قبل المغادرة، شعرت شاما بالفضول مما تشكو ابنتها تلك حتى تحتاج كل هذه الأشياء.

اندست امرأة بين النساء وأخذت الدور بقوة نظر إليها الفقيه وسألها عن حاجتها بوجهه الذي لا يبتسم. كان عجوزا تجاوز الستين من العمر لكنه ليس هرما كما يشي وجهه المربع وملامحه التي تعلن أنه كان وسيما في شبابه بأنفه المستقيم وفمه الصغير، لكن عينه اليسرى انطفأ ضوئها تعلوها غمامة وحمرة من ‘داء العينين’ تضيف عليه لمحة من الحكمة والغموض، تجعل من الآخرين لا ينظرون إليه مرتين من صورتها المقززة، عريض المنكبين وله جسد مملوء بعض الشيء، يرتدي جلبابا أبيضا مخططا بالبني نظيف إلا الجانب الأيسر حيث يضع الصمخ فتسقط نقاط منه على الفراش وعلى ثيابه. مد رجلاه على الأرض وقدماه فوق بعضهما. 

طأطأ رأسه وهو يستمع إلى حاجة المرأة ثم قال: «لا يدخل رزق على الحانوت، أليس كذلك؟» استغربت المرأة من معرفته ثم أجابت: «لا يا سيدي، نجد في كل مرة الباب مرشوشا بماء»

– «تعالي الأسبوع القادم، وخذي عرض الباب الخارجي والباب الداخلي» تساءلت المرأة كيف عرف أن له بابان: «وهات معك ديكا أسودا ومصاريف البخور، حسن؟» هزت رأسها موافقة ثم مدت إليه عشرين درهم فقال مؤكدا: «ماذا عن نقود البخور؟»

– «الأسبوع القادم سأحضرها» وحين نهضت نظر الفقيه إلى شاما سائلا: «ماذا هناك يا ابنتي؟» توترت شاما فأجابت روزانا في مكانها: «تريد أن تعرف طالعها»

فسأل عن اسمها واسم والدتها وعمرها ثم قال دون توقف مغلقا عينيه: «شاما بنت حليمة سعدك طيب وسيكون لك خير كثير، الآتي مشرق بإذن الله والعمر مديد» بالرغم من أن شاما لا تؤمن بهذه الأشياء، فأغلب الظن قال هذا لعلمه أنها ستعطيه المال، إلا أن كلامه بعث فيها راحة غريبة. ونظرت لروزانا التي ابتسمت لها بسعادة ثم مدت بعض النقود للفقيه، نظر في عيني الخياطة وأمسك بيدها التي تمد النقود ثم قال: «الشؤم والسابق العتيق ليس كاللاحق الغريق، سواد السبيل والقلب العليل والليل الطويل مثوى لك فاغسلي ما شجنك فالله وحده شافي القلوب ودعي رجائك في الخالق المعبود فلم يتخل عنك» تملصت من يده وهي في دهشة مما يقول.

اشترت روزانا الخيوط التي كانت في حاجتها وتصرفت كأن شيئا لم يحصل لو كانت شاما في مكانها لانقبض قلبها مما قاله الفقيه.

كان البدر متوهجا فوق المنازل المترامية حيث تجوب روزانا بصمت بين الغيوم الفضية، لوحت لها شاما من قاع بيتها فحطت المخلوقة السماوية كطائرة ورقية قائلة: «ألم تنامي بعد؟»

أجابت شاما هامسة: «كنت أفكر فيما سأفعله بعد الآن، فلا أظنني سأتعلم التطريز أبدا» ابتسمت روزانا وقد فهمت فيما تفكر فيه، فقد طالعت القصص القصيرة التي اشترتها في نهم ومن دون توقف، تمتمت شاما: «أريد أن أذهب للمدرسة من جديد لكن أمي وأبي… لا أدري ماذا سيقولان؟»

– «والديك إن كانا يريدان مصلحتك عليهما إعادة تشغيل دماغيهما الإسمنتين»

– «هذا قاس، فهذا الحال طبيعي فأغلب الآباء هنا هكذا، لكن لديهما قلبين كبيرين» ثم أضافت مفكرة: «لا أعرف من أين أبدأ، فلدي شهادة الابتدائية لا غير»

فردت روزانا بحماس: «إذن فلنذهب غدا للمدينة الحمراء لنسأل» وعزمت أمرها قبل شاما وأخذ جسدها الشبحي يتراقص في الهواء، تدندن مبتهجة لأنها وجدت سببا لزيارة المدينة، كانت تفرح بأتفه الأمور بقلبها الكبير فتساءلت شاما لما تفوه الفقيه بتلك الكلمات.

فسألتها بتردد: «ما رأيك بما سمعت من الفقيه، ألا تشعرين بالفضول عما قصده؟»

هزت كتفيها: «وما الفائدة في التساؤل؟ أريد أن أعيش وأستمتع بكل لحظة فلا أدري متى سأختفي، وأنت أيضا عليك أن تستغلي أيامك على هذه الأرض افعلي ما يصبو إليه قلبك، وأنا هنا سأساندك» وانطلقت نحو البدر المتراخي في السماء.

*******

8. القلعة الحمراء

القلعة الحمراء مدينة مخيفة للقرويين؛ فأول شيء يخشونه فيها قطع الطريق، إذ تتسابق السيارات المجنونة مع الأضواء المرورية ومن بينها تنبثق الدراجات النارية من العدم تتجاوز كل شيء في طريقها. الثاني الأمور المخيفة للقرويين، السياح ببشرتهم البلقاء وشعرهم الأشقر، كِلا الفئتين تتحاش بعضهما في تفاهم غير مكشوف للعيان. والثالث، ضيق المكان والضوضاء العالية، فصوت القروي بلهجته الحادة ونبرته العالية يصبح لينا ولطيفا بهذه البيئة، إذ يعرف أنه في مستوى مختلف فبالرغم من نفخ صدره إلا في قرارة نفسه يصيبه شك من وضعه الاجتماعي أمام سكان المدينة.

ارتدت شاما لهذه الرحلة أفضل جلباب لديها، القرمزي الداكن بخياطة سميكة في الوسط، أما روزانا اختارت جلبابا من ثوب الجوهرة اللامع وزاد لونه الوردي الانتباه إذ لا يناسب هذه الرحلات ولا جسد العجوز والنظارات الشمسية زادت الطين بلة. قدمتا لتسجيل شاما في امتحانات شهادة الإعدادية، فعند بحثها في الأمر مع إحدى الجمعيات اتضح لها أن الأمر ممكن.

بعدما سجلت شاما نفسها للمشاركة في الامتحان واشترت الكتب اللازمة بالأجر الذي دفعته لها الخياطة لعملها معها، أخذت روزانا تجوب بها من مكان لآخر حتى شعرت شاما بأن قدميها ستسقطان من شدة التعب. جلست على إحدى الكراسي في ساحة الحمام في حين اشترت روزانا الذرة لتطعمها للحمامات المتحلقة حولها.

تصفحت شاما الكتب التي اشترتها وأفعمتها رائحتها الصمغية المثيرة، ارتعبت من كتاب الرياضيات المملوء بالرموز، وبدا لها أنها ستحتاج لجهد كبير لتفهمها وأحد ليساعدها بشرحها، كما أرفق بالبرنامج الدراسي للغة العربية قراءة رواية تتغير كل عام، حين أمسكت بها شاما أصابها الهول من عدد صفحاتها الكبير، كان عنوانها ‘رائحة الحب’ للكاتب كمال الإدريسي، ففكرت ربما عليها كان مشاهدة الفيلم الذي عرض السنة الماضية في التلفاز.

تجمع بعض البهجاوة الراقصين حول الخياطة يغنون ‘الحاجة’ لتعطيهم بعض المال، إلا أن روزانا استمرت بالرقص معهم تحت نظرات استغراب من المارة وحين نادتها لتنضم إليهم أشاحت شاما بوجهها خجلا، لكن روزانا سحبتها وسط الساحة وقد تسمرت في مكانها في حين كان المغنون السمر يرددون لحنهم السريع والخيوط المعلقة بطرابشيهم الحمراء تستمر بالدوران كالمروحية وصوفها الذهبي بلمعانه صار حزمة من أشعة الشمس. تحلق الناس من حولهم أيضا وقد رفعت الخياطة الجلباب لحد الركبة لتحرر حركتها محاولة مجاراة الفرقة الشعبية.

كان جوع روزانا المنقذ الوحيد لشاما، فقد جعلها تلين وتجلس في إحدى المقاهي القريبة. اختارت شاما بقعة منزوية فقد كانت هذه أول مرة لها في مكان كهذا، إلا أن رجلا عجوزا جلس قبالتهما، ارتدى قبعة حمراء، سترة لامعة مخططة بالأحمر والأخضر، وسروالا قبرصيا مع بلغة (صندل تقليدي) صفراء، بدا لشاما من المتسولين الذي يملؤون المدينة، ظل ينظر إليهما بتركيز مما جعل شاما تطلب من روزانا أن يغادرا لكنها سألته مباشرة بسذاجة: «هيه أنت، لما تنظر نحونا؟»

فدنا منهما بخطوات حذرة وطأطأ رأسه قائلا: «لقد أعجبتني يا لالة، ممكن أن نتعرف؟»

همست روزانا: «انظري لدي معجب، إني أحب هذه المدينة» لقد ازداد جنونها في هذا المكان، في تلك اللحظة فضلت شاما لو أنها أتت مع والدها الذي يسبق من يمشي معه بعشرين خطوة ويتذمر من كل ما يراه على أن تكون معها. سحبت الرواية من الكيس لعلها تستفيد من هذا الوقت.

سأل العجوز: «هذه حفيدتك؟ تبدو تلميذة مجتهدة»

أجابت الخياطة: «إنها صديقتي ورفيقتي»

– «آخ لو أكون صديقا لك أيضا»

– «لكنك عجوز بالنسبة لي»

دفنت شاما رأسها في الكتاب تمنت لو تغلق أذنيها بالحديد المصهور ثم لمحت اسم شخصية فأعادت قراءتها للتأكد ‘روزانا’، فكرت أنه تشابه غريب، فهذا الاسم ليس دارجا بالمرة هنا.

قال العجوز: «إنني صاحب المحل هنا، اطلبي ما تشائين على حسابي»

– «ستندم على هذا فلدي شهية كبيرة»

– «يقال إن المرأة ذات شهية كبيرة دوما جميلة» وارت العجوز ضحكتها تحت شال الرأس في خجل ثم تمتمت لشاما: «قد قال عني جميلة» لكنها لم تنتبه لها.

علق العجوز قائلا: «الفتاة مركزة تماما مع الكتاب، تعلمين أن صاحبه زبون دائم لدي، ربما سيأتي يوما ويشرح لها ما تريد»

– «صاحب المحل تعرف صاحب الكتاب، هذا كثير»

– «من أجلك سأعرف صاحب كتاب سليمان، ولإن لم تصدقيني فسأتصل به فكمال صديق لي» وغرق العجوزان في حديث فضلت شاما أن تمسحه من ذاكرتها الشابة، ومع مضي الوقت أصبحت القلعة الحمراء أكثر ازدحاما وجمالا آخر النهار، فأقنعت شاما روزانا بالعودة بصعوبة وسحبتها كطفل صغير وراءها.

قرأت شاما الرواية بأكملها خلال أسبوع واحد فقط، فقد كانت الشخصية بالكتاب مشابهة لروزانا في كثير من الأشياء، وعندما أخبرت الخياطة اعتراها الفضول وبدل أن تعتقد أن الأمر غريب قالت: «هناك شخصية باسمي؟ أوه لدي معجب وكتاب أيضا» تنهدت شاما فكل ما يحيط بهذه المخلوقة غريب ولن تفهم هذا، فأضافت روزانا بحسرة: «لو أني أستطيع القراءة فأنا أريد معرفة التفاصيل»

قالت شاما: «هنالك فيلم مقتبس عنها، أتودين مشاهدته؟» فأرسلت في المساء أخاها محمد ليبحث عنه في محل الكاسيت، كان الأصعب العثور على مشغل أسطوانات، فعثرت روزانا على واحد مع الخردوات القديمة التي تمتلكها، واشترت بذور نوار الشمس المملحة وجلست قرفصاء أمام التلفاز متحمسة إلى جانب شاما. لم يكن الفيلم بجودة الرواية لكنه كان كافيا لتتناول شاما كيسين من البذور مع كؤوس الشاي.

حين انتهى الفيلم قامت شاما ونظرت إلى السماء التي احمرت ثم قالت لروزانا: «إذن يا لالة ها أنت عرفت عما يدور» وبترت عبارتها حن لمحت دمعة على خدها، لم ترها يوما تبكي أو شاردة كهذه اللحظة فاقتربت منها قائلة: «ما الأمر؟»

تمتمت روزانا: «أشعر بالفراغ» ثم غادرت البيت، حاولت شاما اللحاق بها لكن الوقت كان متأخرا كما أن الخياطة عائدة لمنزلها لا غير.

*******

9. الضريح

لم يتبق من أشجار الزيتون إلا وريقات مصفرة على العروش الخالية. انحنى طولها في خضوع للشمس المتسلطة وتجعد جذعها وارتسمت على الخشب الجاف أخاديد وصار لحافها خيوطا من البني الشاحب والأصفر يتلاحمان تارة ويتنافران تارة أخرى. توقفت ساقية الماء عن الجريان منذ سنين طويلة، وتناثرت على جنباتها كتل من الحراش وشجيرات التي على الرغم من شح المياه أنبتت زهرات صغيرة الحجم تبدو كقطع اللؤلؤ على الأخضر اليابس.

هبت ريح شرقية ففي فترة العصر يشتد لهيب الشمس، إلا أن وردية ورغم الطقس، صنعت لنفسها طريقا نحو الضريح. ما كان عليها غير ارتداء الصندل فهي تضع منديل الرأس على الدوام وفي البادية لا تحتاج لارتداء جلباب مطرز ولا لوضع خمار حريري، تكفيها كسوة تشمير على جسدها النحيل وقد ربطته من الخصر بمريلة المطبخ لا تزال بقع من غبار من الزعفران الرخيص والفلفل الحلو المطحون عليها، وقد تكونت ثغرة مكان الحرق حين نسيتها على الموقد العام الفائت.

أخذت وردية معها سطلة بلاستكية خضراء تستعمل للوضوء وقد خلطت فيها بعضا من الحناء كما أخذت صرة صغيرة من الملح. لم يكن ضريح ‘أبو حميدة’ بعيدا، ما عليها سوى أن تمشي مئة متر أو أقل حتى تصل إليه. كان قبرا للجد الأكبر لقبيلتهم وقد أتى بعد تجوال طويل إلى هذه الأرض التي لم تكن سوى خلاء. لا أحد يصعب عليه تحديد مكان الضريح فقد كان المبنى الأجمل في المنطقة، بطلائه الأبيض وقبته التي بنيت على طول خمسة أمتار، خضراء حولها نقوش كالتي توضع على الصوامع المغربية وإن كان جزء من الضريح ظل مبنيا من الطين والقش إلا أنه زاده عراقة وغموضا.

قبل الدخول، قامت وردية بوضع بصمة يدها على الضريح. أغرقت يدها بسطل الحناء وبصمت على بياضه في البداية ثم أخذت تمتم بأمانيها وهي تمرغ الحناء أكثر وأكثر على المكان المختار. بعدها رشت قبضة من الملح على كومة من الأحجار الملساء وُضعت على شكل قبة. ثم أخذت ثلاث حجرات منها ووضعتها واحدة فوق الأخرى بأعلى الكومة مرددة أمنيتها مرة أخرى.

كانت البرودة أول مرحب بها داخل الضريح التي تتسرب من الجدران الطينية والأرض الإسمنتية الملساء، واستقبلتها عند فتحها للباب، سحلية سقطت من لا شيء ثم اختفت. لم تخف المرأة لظنها أنها حارس القبر أو ربما روح صاحبه يتنكر على هيئة حيوان ليتوارى عن الأنظار. صبغت الحيطان بالجير وقد خط على بعضها اسم الله بخط صغير رديء أما السقف فدعامته من جذوع أشجار سميكة، رُكبت بشكل أفقي وانغرست حوافها في الجدران لتكون الركيزة لكتلة من القصب والقش والطين التي تغطي الغرفة.

جثت المرأة على ركبتيها على الفور بجانب القبر وقبلته ثلاث مرات، رتبت غطائه الذي تكون من لحاف أبيض فوقه آخر أصغر طولا منه باللون الأخضر ثم جلست ترتاح قليلا. أخذت اللحاف الأخضر ومسحت به عينيها ثم أخذت تتمسح بوجهها وكفيها على القبر مرددة أمانيها مرة أخرى.

صارت الشمس خلف التلة الكبيرة دخلت لالة شريفة الباب وأغلقت الباب خلفها، يُفضل أهل القرية دعوتها بالخياطة، بعد السلام جلست قرب الجدار في صمت. اختلست وردية نظرة وجلة نحوها ثم قررت المغادرة بعد أن ودعتها لكن الخياطة لم تجب. كان الليل قد أرخى ستاره الأسود وبقي ضوء المحال المتناثرة تضيء الطريق.

لم تفارق الخياطة ذهن وردية، فقد صارت غريبة منذ تلك الحداثة، ساعدتها يومها في نبش قبر وندمت على فعلتها، ابتعدت عنها خوفا أن يلحقها ما أصابها، فقد صارت كثيرة النسيان وذهبت رجاحة عقلها. وفي منتصف الطريق تذكرت وردية أنها نسيت سطل الحناء فعادت تجر خطواتها بين الأتربة.

عند باب الضريح رأت السحلية الصفراء خارجا تمشي بين الصخور بدل الحيطان. دفعت وردية الباب ببطء، سحبت ولاعة من جيب المريلة لبعض الضوء لتبحث عن غرضها، فجأة اصطدمت قدمها بشيء لين وسقطت، فتشت عن الولاعة في فزع وأشعلتها نحو الشيء اللين، ثم خرجت شهقة مكتومة حين رأت الخياطة ممددة ومن رأسها تسيل مادة مخاطية، صرخت وخرجت تصيح بأهالي القرية لنجدتها.

*******

10. العذاب الحقيقي ليس عذاب جهنم

أوقف كمال السيارة بجانب مطعم ‘المْعلّم’، محل صغير يقدم أطباق تقليدية دون تغيير، يطل على ساحة الحمام، وإن اختار الزائر الركن المناسب فيستطيع رؤية الساحة بأكملها ففيها يرقد الحمام مرتاحا ويبطئ الناس من حركتهم، وأحيانا يأتي بعض الموسيقيين المتجولين يعزفون ليجمعوا بعض الدراهم.

اتصل به صاحب المحل العجوز والذي يحب أن يلقب نفسه بالمْعلّم، رجل يحب الثرثرة التقاه يوما في مقهى للمراهنات ومنذ ذلك الحين أصبحا شبه رفيقين، أغلب الظن يريد أن يعرض عليه لعبة أخرى. ألقى النادل التحية قائلا: «المعلم ينتظرك في ركنك الخاص» ثم همس له: «أظنه يبكي» فرد مستغربا: «يبكي؟»

كانت برفقة المْعلّم شابة محجبة لم يرها من قبل تجلس إلى جانبه تواسيه، فلما رآه قادما ارتمى عليه يعانقه قائلا: «كمال لقد رحلت حبيبتي، رحلت للأبد» كان معتادا على غرابة الرجل فربت على كتفه على مضض وأعاده لمكانه. ألقت الفتاة تحية خجول، وجلسا لبرهة في صمت إلى أن يهدأ العجوز لكنه استمر بالصياح قائلا: «آه شريفة يا ليتني مت مكانك»

كسر كمال الصمت قائلا: «أنت حفيدة المعلم؟»

أجابت بنبرة منخفضة: «لا» فتدخل العجوز: «اعذريني يا ابنتي، فقط لم أتوقع أن يحدث هذا» ثم نظر لكمال قائلا: «هذه صديقة شريفة، حبي الذي فقدته» استنتج كمال أن شريفة امرأة شابة فقال للفتاة: «الله عظم أجرك وصبرك»

أتى النادل بالقهوة وبراد من الشاي بالنعناع ثم قال العجوز للفتاة: «تفضلي يا شاما، هذا هو الكاتب كمال الإدريسي الذي حدثتك عنه» ثم وجه الحديث لكمال: «الفتاة لديها امتحان هذه السنة، وتريد سؤالك عن روايتك» فكر كمال أنه منشغل لهكذا أشياء لكنه تصرف بلباقة سائلا شاما: «لا أعلم ما المطلوب منكم في المدرسة، لكن من أجل ذلك من الأفضل تسألي أستاذا يدرّس اللغة العربية»

فقاطعه العجوز: «ألا تدرس في الجامعة اللغة العربية أيضا، ساعد الفتاة وكفاك من المماطلة» أراد أن يقول ليس اللغة العربية لكنه العجوز الأمّي لن يفهم الفرق.

أخذت شاما حقيبتها في ارتباك وقال بنفسه وهي تسحب دفترا وثلاثة أقلام كطالبة في الابتدائي: «هذا العجوز مزعج بحق»

سألته قائلة: «اسم الشخصية الرئيسية روزانا، كيف صنعتها؟»

لم تكن تعرف حتى كيف تصوغ الأسئلة، أجاب مصطنعا ابتسامة: «تقصدين كيفية حبْك خلفية الشخصية» ثم ظل يعيد ما يردد للآخرين عادة بأنها شخصية ترفض قواعد المجتمع وتصنع لنفسها صوتا أما الشابة فكانت تستمع بتعابيرها الباهتة، فيضطر أحيانا أن يسألها إن كانت تتابعه، ثم أنهى حديثه قائلا: «وهكذا الشخصية صنعت الحبكة، والحبكة تجعلك تدخل في أعماق الشخصية»

صمتت شاما لبعض الوقت أما العجوز فتثاءب ورشف من كأس الشاي، قال كمال الذي ذاق صبره: «هل أجبت على ما تريدين؟» ارتبكت ثم همست بشيء فقال: «ماذا؟ لم أسمع»

قالت: «إنه ليس تماما ما توقعته»

– «وماذا توقعت؟»

– «روزانا فتاة بهيجة، بهية الطلة، تحب الحياة أو كما قالت لي ذات مرة، رائحة الحب هي ما تقود الناس للعيش» تسمر كمال في مكانه يذكر هذه الجملة، كانت في الرواية الأصلية، ثم أعاد النظر للفتاة خوفا أن تكون صاحبة الرواية الأصلية.

فحثها العجوز قائلا: «دعينا من هذه التمثيلية يا ابنتي واشرحي له، فرأسه متصلب ولن يفهم إلا بالطريقة المباشرة»

تفوهت الفتاة بكلمات متناثرة المعنى وأحداث لا تمس للواقع بصلة، وظهر له أنها مجرد مخادعة أو أنها تعرف ما فعله، ثم أعاد التفكير لأنه لم يفعل شيئا خاطئا. أما العجوز الذي ظل فاهه فاغرا، فصدق كل كلمة تنطق بها ومرددا سبحان الله وتعابير كهذه ثم قال حين توقفت عن الحديث: «الله أكبر، إذن الخياطة كانت تسكنها جنية، لا عجب أنها كانت بتلك الروح الشبابية»

أخذ كمال مفاتيح سيارته وقام من مكانه فترجاه العجوز بأن يبقى فصاح كمال في وجهه: «أتريد مني أن أصدق هذه الترهات؟» ثم قال للفتاة: «أختي، لازالت شابة فلا تتجولي وترددي أكاذيب كهذه» فخفضت رأسها كمذنبة ثم ركب سيارته إلى بار يفتح نهارا.

مضت خمس سنوات كالبرق، لم يعد في حاجة للبحث عن عمل أو كتابة شيء جديد، راتبه كأستاذ مساعد في إحدى الجامعات بالإضافة إلى الأرباح التي حققها في روايته كان كافيين لبعض الوقت، إلا أن إدمانه ذاك لم يفارقه، لم يعد مجرد تسلية، كلما حاول الإقلاع يعود منغمسا في المقامرة أكثر من قبل.

كانت تلك طريقته للاستمرار بالعيش، لا يعلم أين ذهب شغفه الشبابي. صار في الأربعين، ويشعر كأنه غدا عجوزا، المْعلّم أكثر شبابا مقارنة به. في قرارة نفسه يعرف السبب لكنه لا يريد المواجهة، لقد قامر وربح لكن تلك الفتاة ستهدد استقراره هذا، إنها مجرد كاذبة متأثرة بالقصص الشعبية التي تروى عن الجن أو شبح كما قالت واسمه روزانا، ثم ضحك بصوت عال، فرمقه النادل عند البار بنظرة وجلة فقال: «لا تقلق لست سكرانا بعد»

تبعه العجوز بعد بضع ساعات. وجد كمالا لا يزال قابعا في مكانه، فاحتل المقعد الذي بجانبه قائلا: «أما زال الله لا يريد أن يعفو عليك يا صاحبي» كان الرجل مخمورا وليس لديه مزاج لثرثرة صديقه، تجرع ما بقي من الكأس ونهض مغادرا، ظل العجوز يتبعه حتى في طريقه فصاح في وجهه: «ماذا تريد مني؟»

– «لا شيء، إني أرافقك خوفا عليك من السقوط لا غير» وظل خلفه يثرثر: «تعلم؟ تلك الفتاة شاما، أقسم بسيدي رحال إنها بنت حلال. ذلك النوع لا يعرف الكذب، لو أنك فقط أعطيتها مزيدا من الوقت»

– «ابتعد عني يا رجل، لما تتدخل في هذا من الأساس؟» لم يكن كمال يلملم أفكاره جيدا ولا يعلم بما يتفوه، فقد كان الشراب قد وصل إلى دماغه.

أصر العجوز قائلا: «كل ما تريده منك أن تقول لها كيف كتبت ماذا تسمي ذلك، أنت تعلم»

– «أنا لا أعلم فقط اذهب في حالك قبل أن أضربك وأنا أعتبرك في مثابة الوالد»

– «بالله عليك ماذا ستخسره؟ فقط أخبرها كيف حصلت على الفكرة»

 فصرخ وقد فقد أعصابه تماما: «لقد سرقتها، هل ارتحت؟ لقد سرقت لأني لم أعد أستطيع لم…» ثم جثا على الأرض يبكي: «لم أعد أعرف ماذا أفعل» فربت العجوز على كتفه مذهولا.

كانت الثالثة بعد الظهر حين أفاق على جرس الباب، فتحه من دون أن يتحقق من الطارق ظنا أنها أخته علا. أطل وجه العجوز الباسم حاملا طاجينا: «كيف أصبحت؟ لقد جلبت لك وجبة ساخنة من مطعمي» ثم اقتحم المنزل. كان كمال جائعا فجاء الطعام في وقته المناسب.

سأل كمال: «الفتاة لم تأت معك»

– «إنها لا تقطن هنا، المسكينة تقطع المسافة من دوار الرّزمة» أكدت هذه المعلومة على أنها مجرد قروية تصدق الخرافات.

بعد أن التهم الرجلان الطاجين، اتكأ العجوز على الكنبة يداعب أسنانه بعود من برتقالة، ثم قال وهو ينظر بالسقف: «حالك البارحة قد كانت مرثية»

– «ما بي؟ ماذا فعلت؟» لم يكن كمال يتذكر شيئا مما حصل

– «لقد بكيت»

– «أنا؟ أبكي؟ حتى يوم ولادتي أخبروني أني خرجت صامتا إلى أن ضربني الطبيب»

 – «ضربك أين؟» ثم قهقه من نكتته السخيفة

– «إنك تجعل من كل شيء قذرا»

وضع العجوز قدما على قدم وقال بجدية أكبر: «يقولون إن الخمر يذهب العقل لهذا حُرّم، لكن النصارى يقولون شيئا في غاية الأهمية. يسمونه مصل الحقيقة الطبيعي، حينما يؤثر على الإنسان يصبح صادقا وتظهر طبيعته، الغاضب، الباكي والضاحك كلهم ينبثقون من هيئة الإنسان المغلفة حين يغفل العقل قليلا»

– «ومتى أصبحت فيلسوفا؟»

هب العجوز من مكانه ثم اقترب من وجهه محدقا في عينيه: «أعرف لما لا تريد التحدث مع الفتاة»

– «إذا استمريت هكذا ستجعل صداقتنا على المحك»

– «ولأني صديقك، أنصحك بمواجهة ضميرك»

– «ماذا تقصد؟»

– «لقد سرقت الرواية»

تسمر كمال في مكانه ثم ضحك بعصبية قائلا: «لا أعلم عما تتحدث»

– «لقد أخبرتني بنفسك، البارحة، لقد صحت سرقتها» صاح بالعبارة الأخيرة مادا يديه في الهواء ساخرا وأكمل: «ثم سقطت على أرضي تبكي» تحاشى كمال النظر إليه إلا أن العجوز نظر في عينيه مباشرة وقال: «إنكارك هذا يؤكد أنك مذنب بحق» ثم أكمل بنبرة هادئة: «ألا تظن أن هذه فرصة لتصلح نفسك، ربما بهذا سينتهي عذابك»

رد كمال متهكما: «عذابي؟»

– «العذاب الحقيقي ليس عذاب جهنم»

ظلت كلمات العجوز ترن في أذنه لأيام. نهض الطلاب مغادرين قاعة المحاضرات في حين ظل جالسا لبعض الوقت. عن أي عذاب يتحدث، حياته هانئة، فلديه عمل ثابت وهذا يعني دخل ثابت، لديه سيارة ومنزل. داعب أزرار الحاسوب أمامه، اشتاق لتلك الأيام التي كان يسهر أمام الحاسوب يهرش رأسه ليأتي بفكرة جديدة، ويمضي الوقت في صناعة لوحة عن شخص، حياته وأحلامه، وحين يجول الحوار بين الشخصيات في خاطره، لم يعد الأمر كما كان.

في الساحة أمام الباب لمحها، الشابة شاما بوقفتها الخجول تلك، كل حين تنظر من حولها وعلى ملامحها التيه تحت الشمس الحارقة، أراد تجاهلها لكنه أعاد إقفال السيارة. قال لها حين واجهها: «أليس لديك شيء آخر تشغلين بالك به؟»

أجابت وقد غافلها: «أستاذ كمال، اسمحي لي إن أزعجتك، لكن لا أريد منك الكثير»

كان مطعم المعلم ممتلئا عن آخره فأدخلهم العجوز إلى ركن خلف المطبخ وجلب الكراسي. قال كمال: «الحقيقة إنك تتعبين نفسك يا آنسة شاما، فليس لدي ما أفيدك به، وما أخبرتنا عنه، أقصد الشبح وما إلى ذلك، فلا عاقل سيقبله»

– «يمكنني أن تعتبرني مجنونة فهذا لا يهمني، أنا فقط أريد أن أعرف ما حصل لروزانا، لقد رحلت فجأة. أنت لا تعرف كم أنا مدينة لها»

مسح وجهه بكفه وتنهد ثم قال: «الحقيقة، الشخصية بحد ذاتها لم تكن فكرتي» وأطلق نفسا طويلا كأن حملا ثقيلا على صدره زال وأكمل: «لقد وصلتني رسالة من أحدهم، أرسل لي رواية طويلة، وفق خبرتي كانت في حاجة لتنقيح وإعادة الصياغة، أغلب الظن أرسلها لي لأساعده لكن لم أكن في وضع يسمح لي، أخذت قصة واحدة من الكتاب وأضفت عليها أفكاري» ثم أشار بيده غير مبال: «يمكنكم إبلاغ من تريدون»

 قال العجوز: «نحن لا يهمنا هذا، لكن هل عرفت الشخص الذي أرسلها لك؟»

– «كلا، ليس لدي فكرة عنه»

سألته شاما: «هل أستطيع الحصول على الرسالة؟» فأجاب بحسرة: «للأسف قد مسحتها حتى أني لم أكمل قراءتها»

أصابت الشابة خيبة أمل وعادت من حيث أتت، وسأل نفسه ماذا لو كان أكمل قراءة الرسالة، لو أنه على الأقل بعث ردا، ماذا كان سيكون فيها. انتابه الارتباك والحيرة ووجد نفسه في قاعة للمراهنات ثانية، وعندما وصل إلى حد لم يستطع الدفع ثانية. ترجى وكيل المراهنات أن يسامحه هذه المرة أيضا، إلا أنه أشاح بوجهه واستدعى رجلين من حراسه. اقتادوه خارجا لتأديبه هو يترجى أنه سيعيد لهم كل ما خسره، ومع زخم الضربات والألم، فقد كمال وعيه.

*******

11. قبر لم يصلى عليه

كانت شاما تقضي أغلب الوقت في منزل الخياطة الذي أصبح ملكا لها، لا تعلم متى كتبت روزانا الوصية، فلم تكن تهتم بالممتلكات لكنها على ما يبدو كانت واثقة أنها سترحل يوما ما. ما يؤلم شاما أنها رحلت من دون وداع، بعضهم تشفى بالخياطة وقالوا إنها ماتت هناك لأنها تفعل أشياء لا ترضي الله وآخرون ممن عرفوها حق المعرفة حزنوا على لالة شريفة ولكن لا أحد يذكر روزانا غيرها.

انتظرت شبحها في الليالي المقمرة، تنظر إلى البدر لعلها ترى رذاذها المتلألئ بين السحاب. تذهب بين الفينة والأخرى وحيدة إلى الضريح وقد لاحظ أهل القرية زياراتها المتكررة، لكنها لم تعد تهتم لهم أو لكلام الناس.

جاءت العالية في زيارة لهم ومعها أحفادها الثلاثة المزعجون. كانت ثرثر مع والدتها في الصالون حين أتت شاما بصينية الشاي إليهم. تحدثت عن وردية المسكين التي لا تزال طريحة الفراش منذ أن وجدت جثة الخياطة، أصابتها الحمى لم تفارقها رغم أدوية الطبيب، حتى أنهم جلبوا لها شيخا لترقيتها لكن دون فائدة.

قالت حليمة وهي تصب كؤوس الشاي: «ربما رأت شيئا مريبا عندما غادرت الروح الخياطة، وسمعت أنها كانت تقوم ببعض الأعمال معها»

قالت شاما متسائلة: «أي أعمال تقصدين؟»

ردت العالية: «آه يا ابنتي هناك أناس لا يخافون الله» ثم شرحت لها أن وردية كانت تساعد الخياطة بالذهاب إلى المقابر وتدفن أغراضا كخصلات الشعر والصور داخل الجثث المدفونة مقابل المال. جعل هذا الأمر شاما تقرر زيارتها لربما كانت تعرف شيئا عن شبح روزانا.

يقع منزل وردية بالقرب من الضريح الكبير، مبني من الطين والقش، تعيش مع أختها، كلتاهما متزوجتين من أخوين، وهما من يصرفان على الدار في حين أن الزوجين لم يكن يعول عليهما. كانت المرأة راقدة في الصالون، فقد فضلت ذلك لكثرة الزيارات من نساء القرية ليسألن عن حالها.

جلبت شاما معها قنينة من اللبن، وظلت جالسة بعض الوقت تسأل عن حالها والأخرى تحكي تفاصيل كل زياراتها عند الطبيب الذي أخبرها أنها ليس بها شيء لكنها تظن أن عينا خبيثة أصابتها. أبدت شاما الاهتمام من باب المجاملة في انتظار فرصة لسؤالها عن علاقتها بالخياطة، فما إن طرحت الموضوع حتى انتفضت وردية من مكانها قائلة: «لا علاقة لي بتلك المخلوقة، أقصد الله يرحمها، لكنها الآن عند ربها»

ففاجأتها شاما قائلة: «أعرف عن العظام من قبر لم يصلى عليه» تجلت الحيرة وإمارات الذنب على وجه المرأة الأسمر، فأمسكت شاما بيدها مترجية: «لن أحكم عليك، أريد أنا أفهم ماذا الذي يعنيه هذا»

– «لأن المنتحر لا يصلون عليه» أجابت وردية بعد لحظات صمت. ضمت شاما يديها إلى صدرها وانعقد لسانها، احمرت عيناها ثم عضت على شفتها لتمنع الدموع من السقوط. أكملت وردية: «لقد قتلت نفسها بنفسها كما فعلت خديجة، ليرحمهما الله معا. كان اسمها سناء دخو، كنت أعرف والدتها عندما عملت ممرضة في مستوصف الحي قبل سنوات» وشهقت باكية طالبة المغفرة.

«روزانا لن تفعل بنفسها هذا» تمتمت شاما وهي تزن خطاها نحو المنزل عائدة، وشعرت بغصة بجوف حلقها لأنها اكتشفت أن روزانا في حياتها تعذبت ولاقت نفس مصير أختها خديجة. جثت على ركبتيها تبكي، كل ما تبتغيه رؤيتها مرة أخيرة وأن تواسيها بحضن. راقبت القمر كل ليلة وهو يسبح خلف البيوت الحجرية، فقد كان الرفيق الوحيد الذي يعلم خسارتها وفي داخلها يقين بأن روزانا تسبح أيضا في جزء ما من هذا الكون الغامض.

عندما أشرق الصبح في ذلك اليوم، كانت شاما قد شدت رحالها إلى السوق الأسبوعي لتكون أول زبونة في خيمة الفقيه. ترددت للحظات في طلبها فسبقها الرجل ذي العين المنطفئة قائلا: «تبحثين عن ذات الجدائل الفضية وعيون الجنية»، هناك شيء ما يخبره دون أن يحتاج لسؤال وأخذ يعد الحبر بخلطه وينظم ووريقات ذات لون أصفر شاحب لتعاويذه. سألت شاما بلهف: «والمغزى سيدي الفقيه؟»

– «لقد ذهبت إلى حيث يجب أن تذهب» أجاب من دون أن يرفع بصره، فوضعت شاما مئة درهم، جعلته يتوقف عما يفعله وقالت: «أريد لقاءها، فماذا علي أن أفعل؟»

رفع بورقة النقود البنية نحو أشعة الشمس وعدل جلسته القرفصاء ناظرا للشابة: «لا أنصحك، فإذا تزعزع قلبك بالخوف فسيأكلك الذي لا يذكر اسمه» لم تنصت لتحذيره وأصرت على طلبها.

خط الفقيه بالحبر وريقة قائلا: «يوم شعبانة، ستسيرين نحو الجرف الأصفر ومعك تيس أسود، ابحثي عن العريفة وستقطعين العهد لها بإعطائها التيس وهذه الورقة» ومدها إليها وقبل أن تأخذها من يده قال: «إذا نقضت العهد، فسيأكلك الجان. إذا تزعزع قلبك، فسيأكلك الجان. إذا استدرت للأحمر، فسيأكلك الجان» امتصت شاما ريقها بصعوبة وأومأت برأسها موافقة.

*******

12. قبل خمس سنوات

مضت ثلاث أشهر من الحيرة والتساؤل لتنتهي بجلبة وفوضى تظهر عجز الموظفين. كانت الإشارات في كل مكان، استقال القليلون قبل فوات الأوان، أما الأغلبية وبالرغم من علمهم بأن الشركة ستغلق في أجل قريب، كان لديهم أمل وخصوصا الموظفين القدامى.

بدأت النهاية يوم الأربعاء على الساعة الثانية والنصف بعد الزوال، فور وصول رسالة الكترونية تثبت بأن أصحاب الشركة والمدراء ينوون إعلان إفلاسها بهدف فتح شركة جديدة باسم جديد، حيث يوظفون المدراء السابقين الخونة معهم الذين أظهروا لهم بأن لا أحد من الموظفين الآخرين يستحق الثقة. عم في الجو غضب وحقد فالجميع يعرف أن الشركة لم تفلس، فقد كانت تحقق مبيعات بأرقام خيالية وخصوصا بعد نجاح المشروع الأخير، على إثره أصبحت أغلب العمليات أتوماتيكية، وبالتالي هدفهم الأساسي هو تخفيض عدد الموظفين إلى حد كبير برواتب قليلة، لذا فالحل الأمثل هو تأسيس شركة جديدة يوظفون فيها متخرجين جدد.

بعد تلقي الرسالة التي تتثبت نوايا الشركة الخبيثة، نهض الجميع من أماكنهم وتجمهروا في الفناء المفتوح في الطابق الخامس، وتوسطت الحلقة امرأة سمراء طويلة ذات صوت جهوري وبدأت تصرخ معلنة بأن على الجميع الانتفاضة والمطالبة بحقه. مرت تلك العشية والجميع في توتر بين القيل والقال، كل واحد منهم أضحى تائها؛ فلا أرواق رسمية تثبت عمله هنا ولا راتب هذا الشهر ولا مستحقات ولا خبرة كافية.

وفي الغد، حضر الموظفون في موعد العمل، فحتى الآن، ليس هناك أمر رسمي بأن الشركة توقفت على العمل. والأهم، أن المديرة العامة ستحضر رفقة محاميها. وفي هذا الصباح ظهرت مشكلة جديدة، فبعض الأجهزة اختفت، وهي عبارة عن حواسيب متطورة، يقدر ثمنها بأربعين ألف درهم للقطعة، سُرقت بالإضافة إلى خادم الكاميرات. فاتهمت المديرة الموظفين بالسرقة والتخريب مؤكدة على أنه ليس هنالك شيء رسمي على توقف الشركة. وعند الساعة الثانية عشر زوالا، حان الموعد المنتظر، وصل محامو الشركة ووافقوا على مقابلة مندوبَيْن فقط. هذا الأمر أثار حفيظة الكثيرين، فقد يبيع هاذان المندوبان القضية إن وعدوا بمكافأة مالية كما حدث مع المدراء.

ظلت سناء في وضع المتفرج طوال تلك الأيام، تقوم بما يقوم به زملاؤها، التسجيل في نقابة ما، دفع المال لمحام تم توكيله من طرف كل المتضررين، لكن الجميع يعلم أنها مجرد ضربة بعيدة، أغلب الظن سيقوم محامي الشركة بدفع رشاوي لدفن القضية، وبما أنها شركة أجنبية فكان الوضع أعقد بكثير.

كرهت سناء نظام العمل في هذا المكان، ففي سنتها الأولى عملت بكل جد وبذلت جهدا فوق طاقتها لكن لم تلقى تقديرا أو زيادة في الأجر، كما أن هذا النوع من العمل لا يضيف مهارات حقيقية لسيرتها الذاتية، الأمر الذي زاد من تيهان سناء في مستقبلها الوظيفي من دون خبرة، وسمعة الشركة وصلت للحضيض منذ زمن، والأهم عدم حب سناء لمجال عملها التقني وهكذا أصبحت من دون عمل وأمضت أشهرا في مقابلات عمل فاشلة.

– «عليك ألا تكذبي في سيرتك الذاتية» نطق الرجل الذي يبدو أصغر منها سنا بنبرة ساخرة، كان المسؤول عن المقابلة، نصحها أن تكتفي بكذبة بيضاء صغيرة في السيرة الذاتية أو بالأحرى تحايل صغير ومبالغة في بعض النقط مع إهمال أخرى. أصاب عطب دماغها تلك اللحظة، فقبل دخولها تلقت اتصالا من مسؤولة عن الموارد البشرية لإحدى الشركات، بعد أن خاضت مقابلة من ثلاث مراحل متعبة وانتظار لأربعة أشهر دون رد، آتاها الجواب مقتبسا بكلمات سريعة جافة تحفظها المسؤولة عن ظهر قلب وباعتذار ليس له معنى أنهت اتصالها.

قالت سناء للرجل وكأنها تتوسل: «إني سريعة التعلم، لن تندم على توظيفي»

– «ليس هذا ما نبحث عنه»

آلم الحذاء الأبيض قدم سناء في حين لا زال الشاب يتحدث كناصح وقد ظلت تحاول رسم ابتسامة مهنية على شفتيها بالرغم من أن طلبها للعمل رُفض مسبقا. لا تعلم لما كان عليها احتمال كل هذا الذل بالرغم من كرهها للمجال التقني ولنظام التوظيف المريض، «أجل إنه من أجل المال» قالت لنفسها، «اضغطي على نفسك يا فتاة» فالجميع يضغط على نفسه، الضغط والضغط.

حين حلمت سناء ذات يوم قيل لها أن تنس الأحلام وتعيش، ولتعيش في هذا العالم عليها أن تكون واقعية وعملية. فالحالمون لا يعيش منهم إلا قلة محظوظون وهنا لعبة الاحتمالات لا ترحم.

قضت تلك الليلة تفرغ ما في صدرها في كلمات، كانت الكتابة متنفسها وشغفها وحب الطفولة والعمر. وفي مجتمع لا يقرأ، الكتابة ليست بعمل يطعم أحدا لهذا درست سناء الهندسة وتحملت ليال سوداء. فبالإضافة إلى صعوبة وكثافة البرنامج الدراسة الجامعي، كان لسناء مشاعر لا تستطيع أن تتجاوزها. احتفظت بها لنفسها بعدما محاولات أن تشرح ما في داخلها للآخرين، كانت تعلم أنها ليست بخير، هنا في العمق، لم تكن يوما بخير. ابتلت وسادتها بالدموع في أغلب الليال، وابتسمت شفتاها طوال النهار. «لأعيش علي ألا أحلم» إنها عبارة ليست للجميع، هذه الكلمات دفنتها في ظلمة وما أشدها من ظلمة.

قضت سناء أيام البطالة في منزل عائلتها، وشعرت بالثقل المادي والمعنوي الذي تشكله عليهم لأنها لم تجد عملا. كان كل من يزورهم يسألها لماذا لم تجد وظيفة بعد وهي صاحبة شهادة عليا، ثم يتظاهر بتعاطف يرفقه بدعاء منمق. وأخيرا، بعد فترة طويلة، استدعيت سناء لمقابلة عمل أخرى في المدينة البيضاء.

– «المحطة تصيبني باكتئاب» كانت كلمات امرأة جلست لجانب سناء، قالت ذلك حين مر متسول بقدمين معقوفتين وذراعاه مخلوعتين إلى الوراء؛ كان رجلا ناضجا لكن طوله لا يتعدى المتر، بوجه جامد الملامح وعينين غاضبتين، حين يمد يده لا يتفوه بشيء فشكله يكفي لمئة سؤال. كان السفر على الحافلة بين الانتظار والرحلة يشبه البرزخ في قبر الكافر حسب الترمذي، طويل ومؤلم وشعور بالوحدة يتعاظم. تحمل المحطة في مرافقها كل أنواع الأفراد الذي يقشعر منهم بدن المجتمع: السكيرون، المهاجرون غير الشرعيين والأطفال المتشردون.

كان لديها أمل بأن هذه المرة سينتهي كابوسها. كانت موظفة الموارد البشرية لطيفة، شابة نحيفة طويلة وزادها الكعب العالي طولا، وبعد مقدمة طويلة اكتشفت سناء الأمر. كانت الشابة موظفة جديدة في الشركة، واستدعت سناء للقيام بمقابلة تجريبية، يعني لا مكان شاغر لديهم، يعني قطْع سناء لمسافة أكثر من 300 كيلومتر من أجل تجربة لموظفة جديدة لا غير. واستها أنها ستضع ملفها الشخصي في قاعدة بياناتهم، ورغم ذلك لم تفارق الابتسامة المهنية شفتي سناء.

ليلتها، أفاقت مع الساعة الرابعة صباحا وغلبها البكاء من دون إنذار، ففي العمق لم تكن يوما بخير. كتبت على ورقة والدموع تنهمر غزيرة:

‘لا أدري أين أمضي… لا أدري… فقط لا أدري

سأموت ولن أبكي… لقد بكيت طوال عمري

بكيت وبلا سبب… ولألف سبب…

ها أنا أبكي إذن لم أمت بعد

إلى أين سأمشي ولم ينتهي عمري بعد

حاولت ألا أبكي… حاولت أن أشكي…

لكن… لكن… فمتى ينقضي عمري

ربما اليوم سأموت وأرتاح… ربما اليوم يتعب قلبي ويرتاح.’

لم تعد تبكي بعدها ومضت الأيام متشابهة، تقضيها سناء منعزلة تكتب، أنهت رواية قديمة كتبتها حين كانت في الثانوية، حينها كان لديها كثير من الأحلام قبل أن تبدأ في البحث عن مصدر المال، والآن لم تعد تبحث، لم تعد تريد شيئا، ففي العمق لم تكن يوما بخير…

*******

12. لم تشأ يوما الرحيل

خلف الزجاج الضبابي الذي علقت به حبيبات ثلجية باردة، وفي عتمة لا يضيئها إلا ضوء صباح شتوي لن يعرف حرارة الشمس، مدت سناء ذراعا مستقيمة وحضنت بالأخرى شبحا. رقصت بخطوات رشيقة حول المنزل الصامت لم يسمع فيه سوى صوت وقع قدميها الحافيتين، تدور وتدور حول الكرسي، تبتسم حينا وتغني بصمت حينا آخر، وخلفها ظل حبل مشدود من السقف المنخفض يتدلى بهدوء على لحن أغنيتها، لم تشأ يوما الرحيل، لم تكتفي من الحياة بعد لكن الحياة اكتفت منها.

انتهت الرقصة حين اصطدم خيالها بظل الحبل، هل كان هنا قبل لحظات؟ لا تذكر لكن شيئا ما كان يشدها نحوه، لم تشأ يوما الرحيل ورغم ذلك وضعته حول عنقها بأناقة كما تضع قلائدها ثم رمت بنظرة إلى الزجاج قبل أن تدفع الكرسي الذي سقط ليترك قدميها عاريتين تترنحان بالهواء.

*******

13. شعبانة

خلال ليلة منتصف شعبان، أو شعبانة كما يسميها العامة، وجدت شاما نفسها مع جماعة من الأشخاص المؤمنين بقدرات ملوك الجان، قادمين من أنحاء البلاد إلى الجرف الأصفر، لتحقيق أمانيهم وتوسلاتهم. قاد الطريق رجل زنجي رفيع الجسد، طويل القامة وأدخلهم منزلا فسيحا حيث ستقام فيه الطقوس.

جلست العريفة وسط الحفل وقد ارتدت ثوبا أبيضا وزخرفت يديها بالحناء، ومن حولها تدق الطبول وتنشد الأمداح النبوية. تقدم الزائرون واحدا تلو الآخر لقطع العهد وتقديم القربان لها. كانت يدا شاما ترتجفان، فكل ما في الأجواء يبعث القشعريرة في أطرافها. عندما تم قبول الهدايا، قُدّم للحاضرين وجبة ‘الحلو والمسوس’ وكانوا مجبرين على تناول شيء منها، كانت عبارة عن دجاج محضر بتوابل خاصة لم تذق شاما شيئا مثلها، ومن دون ملح لأن الجان سيأكل منها أيضا، وقد رشت في أركان المكان حصتهم من ‘الحلو والمسوس’ إطعاما لهم.

أخذ إيقاع الطبول والصنوج الحديدية في التصاعد بالتدريج وبدأ رجال في الرقص بحركات بهلوانية، يقفزون ويطيرون في الهواء ببراعة وكأن قوة خفية تحركهم، وكلما اشتدت الإيقاعات، شعرت شاما بجسدها يخف وزنه، فلم تعد تشعر بثقل يديها ولا قدميها. وفي خضم ذلك، اندفعت امرأة من الحضور في إطلاق ضحكات هيستيرية مخيفة، ثم بدأت في الجذب المحموم مع الصراخ وهي تتمرغ في الأرض. ثم أخذت تصرخ بأنها تريد ‘قاقا’ أي حلوى، فأسرعت معاونة العريفة بإعطائها شيئا حلوا لاعتقادهن أن الجن الذي يسكنها هو من طلب ذلك، ثم رمين غطاء ثوب أحمر فوق جسمها المطروح.

شدت شاما على صدرها متحدية الخوف من أن يزعزع قلبها أو أن يسرق منها عزيمتها، وكان الغطاء الأحمر يذكرها بكلمات الفقيه، وقد فهمت ما يعنيه، فالأحمر هو لون ملكة الجان التي حضرت في المكان. كوّنت البخور سحائب شفافة من دخان ذي رائحة نفاذة زكية، ووصلت الموسيقى إلى أوج إيقاعها الملكي، هنا بدأت العريفة تصيح بلغة غريبة وكأنها تنتحب، وانتاب أطرافها اختلاج حاد، كما لو كانت مصابة بالصرع وزادت معاوناتها من البخور في المجامر، كيلا ينقطع الدخان المحبب الرائحة لدى ملوك الجان. وفجأة، لم تبصر شاما سوى الدخان الأبيض ورأت ثوبا أحمر يدنو منها بسرعة رهيبة، واستدارت متجنبة إياه، فغشاها الخوف وقد أحاطها الثوب الدموي من كل جانب، قاطعا أنفاسها، لقد خالفت نصيحة الفقيه وها الآن ملكة الجان ستأكلها.

داعبت رائحة خفيفة أشبه برائحة ماء الورد أنفها، ولمحت أصابع شاحبة تمزق الثوب الأحمر إربا وسحبتها اليد ذات العروق البنية إلى حيث يوجد الهواء النقي وشهقت شاما مالئة رئتيها به، حينها رأتها في غبار من السديم المخملي.

امتثلت روزانا في ضوء نجمة تلمع في الفضاء الضبابي، نادتها قائلة وكأن صوتها قادم من فج واد عميق: «كنت أعلم أنك ستبحثين عني، آسفة فحين تذكرت ما كنت عليه وفهمت ما أنا عليه الآن، كان لابد لي من الرحيل إلى حيث يجب أن أكون»

وأحاطتها بدوامة شبحية حاضنة إياها، فقالت شاما بنبرة متألمة: «لماذا… لماذا تخليت عن الحياة؟»

توهج الغبار السديمي: «حاولت إنقاذ نفسي، لقد رجوت أن ينقذني أحد، حاولت وحاولت، لكني كنت غارقة في قاع الكآبة والبؤس، أختنق إلى حد الموت ولا أموت… ولا أموت»

حضنت شاما الضباب قائلة: «لو أنك تبقين، سأهبك جسدي إذا شئت»

– «لا، لقد رحلت وانتهى الأمر. هل يمكننك أن توصلي رسالة… أهلي… أخبريهم أني بخير، لقد أخطأت في حق نفسي وفي حقهم. لم أقصد جرحهم… لم أقصد… فألم قلبي أحرق روحي وأحالها رمادا»

انهمر مزيد من الدمع من عيني شاما كالسيل، فواسها الصوت البعيد: «لا تبكي يا صغيرتي سأكون معك أينما كنت» والتمع ضوء النجمة منعكسا على دموعها قائلة: «لا تكبتي أحلامك، لا تهملي عواطفك، فليس الجسد وحده ما يمرض، هنا في العمق» وأمسكت شاما بصدرها: «هنا في العمق ربما لا نكون بخير، وأنت يا شاما أقوى مني بكثير»

*******

14. رائحة الحب

قضى كمال أياما في المستشفى وقد جعلت الحادثة الأخيرة عائلته وأصدقاءه هذه المرة، يقفون بالمرصاد بينه وبين إدمانه، فلم تعد تكفي النصائح ولا التهديدات، وأدخل مصحة لإعادة التأهيل. أعاد التفكير في كثير من تصرفاته، وكان أول شيء فعله عند خروجه، هي مقابلة شاما وطلب مساعدتها لتصحيح أحد أخطائه الكبيرة وزار برفقتها عائلة صاحبة الرسالة.

انتقلت العائلة لمكان بعيد، وتركوا منزلهم القديم بعد الذكرى التي تخلدت بين جدرانه. قابلهم والد سناء برحابة صدر، وقد أنصت بهدوء لكمال الذي اعتذر لأنه لم يعطي الرسالة أهمية. قال الرجل: «لا داعي الاعتذار سيدي، فعلى ما يبدو أن سناء عندما راسلتك، كانت قد اتخذت قرارها» وطأطأ رأسه للحظات محاولا ألا يبدي شيئا من جراحه. وأكمل: «كانت كل الإشارات تثبت أنها تعاني من اكتئاب حاد، والبحث عن فرصة عمل والرفض المستمر الذي عانت منه زاد من حدة مرضها. لم ننتبه ولم نعط للمسألة أهمية» التمعت دمعة في عينه وهو يقول: «كانت طفلة ذكية وحساسة، لم تكن لدينا فكرة أنها تتعذب…» وقطع جملته مواريا دموعه.

يوجد في العالم كثيرون من أمثال سناء لكنها لم تكن محظوظة كغيرها فالظلام الذي اجتاحها كان أقوى وأشد مما يمكن تخيله. قالت شاما مواسية الوالد: «إنها لا تتعذب الآن، أنا واثقة أنها في رحمة الله مهما قال الناس. صحيح أنها أنهت حياتها، لكن الله رؤوف بعباده، لم تجد طريقة للتعبير وقد خانها ألمها، ولابد أنها تمنت أن تظل عالقة في ذكراكم على أنها الطفلة البهيجة التي تحب الحياة»

تنهد الوالد وقال: «الحمد لله على كل حال»

أصحبت شاما صديقة مقربة للعائلة، وبعد سنوات كانت واحدة من الطلاب الذي يدرسهم كمال في الجامعة. أما هو فقد حارب إدمانه، كلما اقترب من الاستسلام لرغبته، شدت العائلة من وزره وعاد للكتابة، فكان أول عمل له هو مراجعة وتنقيح كتاب سناء.

قدم الكتاب هدية لشاما ودعاها لقراءة مقطع منه أمام الصف، ففتحت أول صفحة:

‘هل يمكن أن أشتم رائحة الحب

فقط الرائحة تكفي

إنها رائحة تجعل من روح جائعة

 مختبئة تحت ستار الألم الجميل

أو ربما سعادة مؤذية

تلك الرائحة العطرة والغريبة

التي تفوح من العيون الحزينة

من عيون الناس…

ربما العيش مع الناس يجب ألا يقترن بالحب

ربما الحديث مع تلك المخلوقات مجرد مضيعة للوقت

ربما يسببون لك جروحا لا تشفى إن اقتربت منهم أكثر

ربما يقولون نحن إلى جانبك ولكن لا يأخذون كلامهم على محمل الجد

ربما بالأخير أنا مجرد غبية تستمتع بحلاوة الوحدة والألم

ربما هذا ما يروق لي

ربما أريد أن أعيش وحيدة دائما

ولكن كل هذا مجرد تكهنات وكلام غير مقصود

فلا يمكن أن تعيش لوحدك

أنت تريد أن تحِب وأن تحَب

لأن هذه طبيعتنا

لا نستطيع أن نعيش من دون الناس

فلا يمكن القيام بأي شيء وحدك ولا أن تتقدم للأمام

الناس مهما كانوا أغبياء وأوغاد بالنسبة لك

فرائحة الحب تقودك إليهم دون أن تشعر

في الحقيقة هذا أمر ممتع فلا يمكنك أن تمل وأنت مع الناس

الذين ينسون ويكرهون ويمقتون ويقتلون ويخذلون ويغدرون

لأنهم أيضا من يدفعك للعيش، ويمنحونك معنى السعادة والأمل

فلحظة ابتسامة حقيقية واحدة تكفي

أن تجعل تلك الرائحة تفوح في قلبك المتقلب’

تواصل معنا

إذا رغبت في قراءة الرواية بنسخة pdf، يكفي أن تتواصل معنا وسنرسلها.

إن كان لديك أي استفسرات فلا تتردد بإرسالها