المسيحية ونهاية الدين الأمومي: التحول من الدين الأمومي إلى النظام الأبوي

قبل أن يتحول العالم ويتحجر على شكل نظام أبوي قاس، كان يزخر بآلهات الأمهات. جسد المرأة كان رمزًا للخصب والحياة. فحكمت صورة الأم الكبرى خيال الشعوب بحضاراتها المتنوعة من سومر إلى وادي النيل. لكن مع صعود المسيحية وتوطينها داخل الإمبراطورية الرومانية، حدث التحول الجذري: تلاشت الآلهة الأم، وصعدت صورة الإله الذكوري الواحد، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ البشري هيمنت فيها الأبوية، وتراجعت مكانة المرأة من مركز الكون إلى الهامش. وبعبارة أخرى شكلت المسيحية نهاية الدين الأمومي.

سأقترض ثلاث دقائق من وقتك الثمين ولنحاول معا فهم كيف أصبح انتشار المسيحية بمثابة الضربة القاصمة للدين الأمومي وصعود النظام الأبوي الذي سيطر لقرون طويلة.

المسيحية نهاية الدين الأمومي

الدين الأمومي قبل المسيحية: العالم الذي كان

قبل بروز المسيحية، كانت الديانات الأمومية راسخة في المتوسط والشرق: في بابل، عشتار هي سيدة السماء والحب والحرب. في مصر، إيزيس رمز الوفاء والخصب. في الأناضول، سيبيل تجسد قوة الأرض الأم. حتى في اليونان، أرتميس ودمتر حافظتا على حضور نسوي قوي في الوعي الجمعي.

كانت المرأة في هذه السياقات ليست فقط كائنًا اجتماعيًا، بل لدورة كونية شاملة. فالناس كانت لاحظت أن الدورة الشهرية تعادل دورة القمر، واعتبروا أن الولادة استمرار للخليقة. هذه الرمزية جعلت المجتمعات تمنح المرأة مكانة محورية، وإن خسرتها مع تغير الأزمان والحضارات إلا أنها كانت دائما ‘البوابة إلى المقدس’.

المسيحية الأولى: إشراقة نسوية خافتة

المسيحية عرفت تغيرات وصراعات قبل أن تكتسب شكلها الذي حكم العالم، وكانت النساء جزء من هذا التطور. فالجماعات المسيحية الأولى ضمّت نساءً مؤثرات: مريم المجدلية كانت شاهدة على القيامة، والرسائل الأولى لبولس تذكر نبيّات وقيادات نسائية. بل إن المسيحية المبكرة بدت وكأنها حركة هامشية تعطي للنساء والفقراء والمهمشين مكانًا متقدمًا.

لكن هذه اللحظة كانت قصيرة. إذ مع تزايد الضغوط لانتشار المسيحية في عالم يهيمن عليه النظام الروماني الأبوي، بدأ خطاب الكنيسة يتغير تدريجيًا.

المسيحية والإمبراطورية: من الهامش إلى السلطة

التحول المفصلي جاء مع الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع. هنا لم تعد المسيحية دين المضطهدين، بل أصبحت دين الدولة. ومن أجل أن تنسجم مع بنية الإمبراطورية، جرى إعادة تشكيل المسيحية لتخدم النظام القائم.

  • الآلهة الأم القديمة جرى استبدالها بصورة إله ذكوري واحد مطلق.
  • قصة الخطيئة الأولى ألقت الذنب الأزلي على حواء، لتصبح المرأة مرادفًا للضعف والإغواء.
  • أعيد ترتيب الهرمية الروحية: الله → المسيح → الرجل → المرأة.

في هذا السياق، لم يعد للمرأة مكان ككاهنة أو نبيّة أو وسيطة بين الإله والبشر. صار دورها مقصورًا على الطهر والإنجاب، أي تمجيد الجسد كأداة إنجاب مع تهميشه ككيان روحي.

مريم العذراء: التمجيد المنزوع من السلطة

قد يقال إن مريم العذراء شكّلت استثناءً، فهي تكريم لأنثى مقدسة في قلب المسيحية. لكن عند التأمل نجد أن صورتها لم تعد امتدادًا للآلهة الأمهات القديمة، بل أعيد تعريفها بشكل يخدم الأبوية:

  • مريم ممجّدة لكنها بلا سلطة روحية مستقلة.
  • أمومتها مرتبطة بالبتولية، أي بالنقاء الجنسي أكثر من الخصوبة الطبيعية.
  • تحولت إلى نموذج مثالي للمرأة: طاهرة، صامتة، مطيعة.

بهذا الشكل، فإن مريم لم تُعد حضور الأنثى المقدسة، بل كرّست انسحابها من المجال العام إلى مجال الطهر المثالي.

المرأة بين الخطيئة والخضوع

مع استقرار المسيحية الرسمية، بدأت الكنيسة تضع القوانين التي تنظّم حياة النساء. المجامع الكنسية رسّخت فكرة أن المرأة ناقصة العقل والدين، وأن عليها الطاعة للرجل. جسدها أصبح ساحة صراع رمزي: من جهة هو مصدر الخطيئة، ومن جهة أخرى هو أداة الإنجاب الضرورية. هذا التناقض جعل المرأة محاصرة بين التقديس والتجريم، لكنها في الحالتين منزوعة الإرادة.

انهيار الدين الأمومي وصعود النظام الأبوي

انتشار المسيحية لم يكن مجرد تحول ديني، بل كان تحولًا حضاريًا. فقد أنهى آخر ما تبقى من الديانات الأمومية في المتوسط. صحيح أن بعض الطقوس الشعبية حافظت على رموز نسوية، مثل مواكب القديسات أو طقوس الربيع، لكن هذه بقيت بقايا معزولة بلا سلطة.

وبالمقابل، رسّخت المسيحية الإمبراطورية نظامًا أبويًا صارمًا، جرى نقله إلى العصور الوسطى، حيث أصبحت المرأة مقموعة قانونيًا وروحيًا. لقد مثلت المسيحية اللحظة التي انتقلت فيها الأبوية من مشروع صاعد إلى نظام كوني مهيمن.

وفي الختام

إذا نظرنا إلى المسار التاريخي، يمكننا القول إن المسيحية لم تبتكر الأبوية من العدم، لكنها مثلت المنعطف الحاسم الذي أزاح الأمومية إلى الأبد تقريبًا. فمع صعود الإله الذكوري الواحد وتلاشي الإلهة الأم، تحولت المرأة من كيان مقدس ووسيط للخصب إلى موضوع خاضع داخل بنية ذكورية صارمة.

هذا التحول ما زال يلقي بظلاله حتى اليوم. فالصراع حول مكانة المرأة في المجتمعات الحديثة ليس إلا امتدادًا لذلك الإرث الطويل، حيث لا تزال الأسئلة نفسها قائمة: هل يمكن للمرأة أن تكون كيانًا مقدسًا وفاعلًا، أم ستظل محاصرة بين الطهر والخطيئة؟