الجُسيم الشبح: حينما تتسلّل أشباح الذرّة عبر أجسادنا بلا أثر

الجسيم الشبح من أكثر الجسيمات التي شكلت تحديا للعلماء، وكانت عصية على الفهم والأكثر غرابة. تخيل معي: في كلّ لحظة تمر، يعبر جسدك ما يقارب خمسين تريليون نيوترينو دون أن تشعر، ودون أن تترك أثراً. بل إنّ هذه الجسيمات قادرة على عبور الأرض كلّها من قطبها إلى قطبها في جزء من الثانية، دون أن تتأثر أو تؤثّر، كأشباحٍ تتجول بيننا منذ ولادة الكون.
الجسيم الشبح من الجسيمات العجيبة، التي لا نراها ولا نلمسها، تُعرف بالنيوترينوهات (Neutrinos)، أو كما يُطلق عليها محبّو الفيزياء: الجسيمات الشبح.

الجسيم الشبح

لكن، كيف بدأ اكتشاف هذه الكيانات الغامضة؟ ولماذا نعتبرها اليوم مفاتيح لفهم أعقد أسرار الكون كالمادة المظلمة وأحداث الانفجارات النجمية؟

من حيث بدأت قصة الجسيم الشبح: لغز في طاقة مفقودة

فكانت الفيزياء النووية تشهد ثورة مفاهيمية في بدايات القرن العشرين. وخلال دراسة عمليات التحلّل الإشعاعي، لاحظ العلماء شيئاً غريباً: حينما يتحلّل أحد العناصر المشعة، ويُصدر أشعة بيتا (وهي إلكترونات عالية الطاقة)، لم تكن هذه الإلكترونات تحمل كل الطاقة التي كانت متوقعة نظريًا.

كان هذا الاكتشاف مربكًا؛ إذ بدا وكأن هناك شيئًا ينتهك قانون حفظ الطاقة.
فكيف يمكن لطاقة أن “تتلاشى” ببساطة؟
هل كانت القوانين التي لطالما آمنا بها تنهار أمام أعيننا؟

وهنا، وفي عام 1930، تقدّم العالم الفيزيائي فولفغانغ باولي بفكرة جريئة: ماذا لو كان هناك جسيم آخر يخرج أثناء التحلل النووي، لكنه لا يتفاعل مع أي شيء، ولذلك لا يمكننا رؤيته أو قياسه؟
جسيم يحمل الطاقة الضائعة، لكنه يختبئ عن أنظارنا؟

وقد أطلق عليه لاحقاً اسم “نيوترينو”، وهي كلمة إيطالية تعني “المعتدل الصغير”، تكريماً لخفته وخموله الغريب.

الجسيم الشبح: شبح لا يُرى ولا يُمسّ

ما يجعل النيوترينو فريدًا إلى هذا الحد هو طبيعته التي تشبه الأشباح. فهو:

  • عديم الشحنة الكهربائية، لذا لا يتفاعل مع القوى الكهرومغناطيسية.
  • يمتلك كتلة ضئيلة جداً، يُعتقد أنها أقل من كتلة الإلكترون بمليون مرة.
  • لا يتأثر بسهولة بالجاذبية.
  • لا يصطدم بالذرات بسهولة، بل يمر من خلالها وكأنها غير موجودة.

لهذه الأسباب، يصعب جدًا التقاطه أو قياسه. فلكي تمسك بنيوترينو واحد، كأنك تحاول أن تصطاد رصاصة مسرعة باستخدام شبكة فراشات!

وهذا ما جعل العلماء يقضون ربع قرن من الزمن حتى يتمكنوا من إثبات وجود هذا الجسيم الشبح، وقرابة خمسين سنة لفهم خصائصه المختلفة.

البحث عن الأشباح: تحت الأرض وفي أعماق الماء

التقاط النيوترينو أشبه بمحاولة سماع همسة في إعصار. ومع ذلك، لم يتراجع العلماء، بل بنوا مرصديْن مذهلين تحت الأرض:

  1. مرصد سادباري في كندا: يحتوي على آلاف الأطنان من الماء الثقيل.
  2. مرصد “سوبر كاميوكاندي في اليابان: خزان عملاق تحت الأرض، يحوي حوالي خمسين ألف طن من الماء النقي، تحيط به أجهزة كشف فائقة الحساسية تُدعى الكواشف الضوئية المضخّمة (Photomultiplier tubes).

وضع هذه المرصادات في أعماق الأرض ليس عبثاً، بل هو وسيلة لحمايتها من الإشعاعات الكونية والضجيج الإشعاعي، حتى يتمكن العلماء من رصد الأحداث النادرة جداً التي يصطدم فيها نيوترينو بذرة ماء واحدة، محدثًا ومضة ضوء صغيرة.

وهكذا، أصبح بإمكاننا أخيرًا أن نسمع “خطوات الأشباح”.

التحول بين النكهات: دليل على وجود الكتلة

في عام 2015، حصل العالِمان تاكاكي كاجيتا (من اليابان) وآرثر ماكدونالد (من كندا) على جائزة نوبل في الفيزياء، بعدما أثبتا شيئاً مذهلاً: النيوترينوهات تتغيّر. (المصدر)
فهي لا تحتفظ بنفس “النكهة” أو النوع أثناء حركتها، بل تتذبذب بين ثلاثة أنواع:

  • نيوترينو إلكتروني
  • نيوترينو ميوني
  • نيوترينو تاو

هذا التذبذب لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الجسيمات تملك كتلة، وهو ما حسم الجدال الطويل حول كتلتها، وأثبت أن قوانين النموذج القياسي في الفيزياء يجب أن تتوسع لتشمل هذا الجسيم العجيب.

نيوترينوهات الكون: رسل من النجوم المنفجرة

لكن من أين تأتي كل هذه النيوترينوهات؟

في الواقع، النيوترينوهات تولد من مصادر متعددة:

  • الشمس: تنتج كميات هائلة من النيوترينوهات نتيجة تفاعلات الاندماج النووي داخلها.
  • الانفجارات النجمية (السوبرنوفا): حينما تنهار النجوم العملاقة، تطلق دفعات هائلة من النيوترينوهات، تحمل معها معلومات عن تلك اللحظات الفاصلة في حياة النجوم.
  • التفاعلات الكونية: في أعماق الكون، وفي التصادمات العنيفة بين الأجسام الفلكية، تتولد النيوترينوهات عالية الطاقة، والتي يمكن أن تخبرنا عن أحداث كونية عمرها ملايين السنين.

اليوم، نحن نرصد هذه الجسيمات عبر مرصد “آيس كيوب” في القارة القطبية الجنوبية، ومرصد “دون” في الولايات المتحدة، وغيرهم، على أمل أن تحمل لنا مفاتيح لفهم أكثر الظواهر غموضاً.

لماذا نهتم بالنيوترينو أصلاً؟

قد يبدو النيوترينو كجسيم غامض لا يكاد يؤثر في عالمنا اليومي، ولكن الحقيقة مختلفة كليًا.
فهذا الجسيم:

  • يساعدنا على فهم المادة المظلمة التي تشكل 27% من الكون.
  • يوفر نظرة إلى داخل الشمس والنجوم، حيث لا يمكننا النظر مباشرة.
  • يفتح الأبواب نحو فيزياء جديدة تتجاوز ما نعرفه اليوم.

بل إنّ دراسة النيوترينوهات قد تقودنا إلى أجوبة عن أسئلة وجودية كبرى:
لماذا يوجد الكون؟ ولماذا تسود المادة على المادة المضادة؟

في الختام: مطاردة الشبح مستمرة

رغم كل ما تم اكتشافه، لا يزال النيوترينو يحتفظ بالكثير من أسراره.
فمن هو حقاً؟
هل هو مفتاح لفهم الجاذبية الكمومية؟
هل يمكن استخدامه للكشف عن التجسس النووي أو لرؤية باطن الأرض؟
بل هل يمكن يوماً أن نستغله في الاتصالات أو التكنولوجيا؟

كلها أسئلة مفتوحة، تنتظر من يغامر ويمد يده لاصطياد شبح من العدم.