رحلة سياحية في المعتقلات

الجولة الأولى

“لم أتوقع أن يكون أنيكا امرأة شابة” وجه لوك الكلام لها من تحت قناعه الأنيق من القطن والمزخرف بالستان. ردت من دون أن تنظر إليه: “عليك أن ترمش، المعدل الطبيعي للرمش من عشر إلى اثني عشر مرة” كان يرتدي قلنسوة مع سترة عريضة، سروال فضفاض وحذاء رياضي، يضع يديه في جيبه، رمش ببطء بالبداية ثم تمكن من أن تبدو عينيه الناعستين طبيعيتين. أضاف: “لم تقدمي شكرا لي، فالآغارثيون معروفون بأدبهم” انطفأت مصابيح الشارع وعمت المنازل في الظلام، بينما تسير السيارة إلى وجهتها بسرعة ثابتة بقلب المدينة. دمدم وقد تحولت العدستين بعينيه إلى الشكل العمودي متناسيا نصيحتها: “الهواء هنا حقا مختلف” استشعرت أنيكا الاختلاف أيضا من دون جهد، فالمكان تعمه طبقة كثيفة من طاقات ذي مستويات منخفضة حادة، وظهر تأثيرها على وجه لوك في انتعاش هالته. مقارنة بالبشر، فالأمر بالنسبة له أشبه بالذهاب إلى منتجع ينابيع حارة في الهواء الطلق.

بدأت إجازة لوك فور دخوله إلى أجواء سورمادا، فمن الهواء يمكن لكائن الدم الأزرق أن يحس بذلك الاختلاف، وهي تستطيع استشعار نشوته بمجرد النظر إليه. فليستمر صنف الزحافيون بالبقاء بالبعد الأرضي بهيئة بشرية يحتاج الزحافي إلى طاقة متجددة على الدوام، وكلما كانت تردداتها حادة كلما كانت أكثر تأثيرا وغذته لمدة أطول.

كان لوك شابا في الثالثة والعشرين من العمر، موسيقي معروف، والدته مغنية ووالده ممثل، كل شيء كان مجهزا له بما أنه من طبقة الدم الأزرق. لذلك كان ينقص حياته على الدوام المتعة والإثارة. دفع خمسة عشر مليون دولارا مقابل إقامة لثلاثة أيام مع عرض خاص. لكائنات الدم الأزرق حس بالتميز والتفوق، لكن لم تستحضر أنيكا أيا من هاتين الصفتين في كثير من الشخصيات من محيطها، فالزحافيون لا يختلفون عن البشر إذ لديهم رغبات وتقلبات مزاج وشعور بعظمة الذات غير المستحق. إلا أنهم يعلونهم بالهرم الغذائي.

ما لا يفهمه البشر هو أنهم ليسوا على قائمة الهرم الغذائي كما يعتقدون. فكائنات الدم الأزرق، أو الزحافيون وفقا للتعبير العامي، هم مخلوقات تعتمد في تغذيتها على الطاقات المتفردة ذات الترددات الحادة القصيرة، والتي يوفرها الكائن البشري عندما يخضع لتأثيرات داخلية أوخارجية قوية تؤثر على كيانه الروحي والمادي، فالكائن البشري بدون ذلك كحبة قمح لم تطحن وتعجن وتطبخ.

وكم كان اكتشاف الجنس الزحافي لنوع الطاقة الحادة التي تصدر عن العواطف المتقلبة للبشر عظيما. كان بمثل أهمية اكتشاف البشر للقمح والذرة والأرز، اكتشاف تسبب في الثورة الزراعية وساهم في انتشار هذه المحاصيل، ليصبح القمح، على سبيل المثال، أكثر صنف نباتي منتشر على الأرض، يحتكر مساحات واسعة من الأراضي والجهد والوقت. وبنفس المحاكاة، فقد كان اكتشاف ‘الزحافيون’ لطاقة العواطف الحادة عند البشر ثورة في طريقة تأمين غذائهم، فتغيرت طرق حياتهم وانتقل كثير منهم قبل زمن بعيد إلى البعد الأرضي. وكما حصل مع البشر الذي تدهور تنوعهم الغذائي باعتماد شبه كلي على نوع غذائي واحد بنظامهم الغذائي، تدهور النظام الطاقي للزواحف على اعتمادهم على تنوع طاقي أقل، ثم جاء الطوفان العظيم أو الكارثة العظمى أو الانتقام الإلهي، يمكن تسميته بكثير من التسميات. بعده وجد هؤلاء الزحافيون نفسهم محاصرون في البعد الأرضي غير قادرين على الاتصال مع أقرانهم، والتجئوا لجوف الأرض وزاد اعتمادهم على البشر للبقاء في قيد الوجود. كلما زاد عدد البشر وكلما طبخوا أنفسهم على نيران التقلبات من حروب وأزمات ونشوة أفراح، توفر غذاء أكثر وموارد أكبر للحفاظ على بقاء الزحافيين وبنفس الوقت زاد اعتمادهم وتدهورت هالتهم الطاقية أكثر واحتاجوا لمزيد من الغذاء الطاقي مما يعني بشرا أكثر وأزمات أكثر في دوامة استمرت لآلاف السنين.

أخذ السائحان استراحة قصيرة بأفخم فندق بالعاصمة دمشقيتو. طلب لوك الشيشة بنكهات مختلفة، منشغلا بتجربتها، فيما ظلت أنيكا جالسة على كرسي عاقدة قدميها تراقب من زجاج النافذة المغلقة المدينة المظلمة. كانت التاسعة عشر بعد المئة بقائمة الأماكن التي يجب زيارتها. وكان من الصعب قبول تأشيرتها إلا أن لا شيء يصعب على عائلة كوهين، فلوك هو قريب رجل الأعمال إشعيا كوهين. احمرت عيناه من تأثير الدخان مع ابتسامة مسترخية وقال: “كنت أتوقع شخصا مسنا، أتعلمين؟ لكن بالنهاية رفقتك مملة أيضا” ونفخ بأنبوب الشيشة، وسرح قائلا: “لقد التقيتك قبل سنوات حين كنت طفلا فكيف حافظت على هيئة بشرية شابة، هل للآغارثيين تقنية سرية يمكنك مشاركتي بها؟” “إنك مخطئ. أنا شخص آخر، التي تتحدث عنها هي أنيكا التي سبقت وجودي” نخر ساخرا: “وهل كلكم تسمون أنيكا؟” “أجل” رفع حاجبيه مستغربا وسأل: “كيف تتكاثرون؟ عبر البيض أم التوالد؟” “لا هذا وذاك، نستنسخ أنفسنا” “أووه” لفظها بشفقة فالتكاثر عبر الاستنساخ يُعتبر عندهم عملية بدائية في التكاثر، فالزحافيون يتكاثرون عبر البيض كالطيور.

واتجهت عيناه إلى الزجاج: “إلى ماذا تنظرين؟” “للا شيء” غرغر أنبوب الشيشة مثرثرا: “سمعت والدي مرة يقول أن الآغارثيون كانوا السبب في..” وصنع في الهواء علامة اقتباس حين أضاف: “نشوء السلالة الرجيمة” للاستخفاف بالتعبير

لم تجب، فلم يكن لديها إجابة صحيحة أو منطقية فهي ما تبحث عنه، من أجل العثور على جواب شاف لذلك السؤال الأزلي ولذلك ها هي تجوب من مكان إلى آخر باحثة عنه. لم يكن لدى لوك معرفة واسعة عن العالم الخفي فهو من الزحافيين المندمجين بالعالم البشري.

دقة واحدة على الباب ثم فتح. وصل مرافقهم في الجولة السياحية متأخرا بساعة، حيث كان عليهم الانطلاق مع الساعة الثانية صباحا. دخل الرجل الثلاثيني بشارب هتلري وخصلات شعر ناعمة قليلة تلتصق بجبينه، قدم نفسه للوك باسم حسون وسيكون مرشده بفترة إقامته، بشري بسيط في ثقافته وإنجليزيته مريعة ولم يكن أمرا جللا، فلم يكن في حاجة لتبادل الكلام مع السائحين كثيرا. علق لوك مشيرا إلى الشارب: “لمسة لطيفة كأننا في معتقلات أوشفيتز” تجاوب البشري بتعبير عدم الفهم مع مزيج من العبوس. خلف اختياره السيء لمظهره وملابسه يمتلك بشرة نادرة، الجلد في حالة ممتازة، والأمر يعود إلى تغذية جيدة. وأيضا أثار انتباهها لمعة العينين والعروق، إنه لا يعاني من مشاكل نفسية عكس الغالبية العظمى من البشر، فالقلق المستمر وحالات التوتر الشديدة تترك آثار واضحة على الجسد البشري. رمقها بنظرة مستنفرة حين كانت تتفحصته وأمر بلهجة فظة بأن يتبعاه.

ارتدت أنيكا زي ضابط كما فعل لوك، وبيد كل منهما بطاقة، ثم توجهت بهما سيارة فيات صغيرة تابعة للجيش إلى حي لا يبعد عنهما كثيرا بقلب العاصمة. فحيين ترجل لوك همس حائرا: “اعتقدت أن الجولة ستكون بمكان ناء أو معزول” ومسح بنظره المبنى المتواضع وما حوله، والذي لا يختلف عن سائر بنايات الحي.

قال حسون بنبرة آمرة: “من أجل سلامتكم تقيدوا بالبطاقة واتبعوا التعليمات” اعوجت شفة لوك مستَفزا، فالطاقة التي تخترقه الآن تجعل حقيقة جلدته تتكشف على مهل، ولا يرضى زحافي ببشري وضيع أنه يتحدث معه بلهجة آمرة، فهل بشري سيرضى بأن تتحداه دجاجة أو بالأحرى حبة قمح.

انتظرا في مكتب وضيع، والضابط ذي التعابير البلهاء لم يبعد عينيه عنهما، ثم جاء ضابط يشبهه وإن كان زيه أكثر رادءة وتفوح منه رائحة قلة النظافة، بشرته المصفرة من آثار فقر دم وسوء تغذية، ثم تسلم مسؤوليتهما بعد نيله أمرا من حسون، الذي يعتقد أن كلا الضيفان لا يفقهان شيئا من لغته، فقد نعتهما بألفاظ قبيحة وهو يشرح لتابعه كيف عليه أن يحترس منهما وبنفس الوقت أن يحافظ على سلامتهما، والأهم ألا يسجلا أي شيء.

أما فضول أنيكا فقد سحبها نحو مراقبة لوك، فعندما نزلوا الدرج إلى حيث الزنازين، ارتعشت فصائله ودبت فيها قشعريرة من النشوة كمن يأخذ أول نفحة من الكوكايين بعد إقلاع طويل. وتمتم: “الرائحة..” كان يقصد الرائحة العابقة بغياهب اليأس والأرواح المتقيحة.

لوك الآن يكتشف عالما موازيا، فأول فقرة من جولتهما السياحية كانت غرفة أشبه بصندوق حديدي بعرض متر واحد، حشر فيها أكثر من ستون شخصا حسب نبضات القلوب التي رصدتها أنيكا. كيف يستطيعون التنفس، تساءلت. كان كل شيء جزء من التعذيب: الوقوف، الازدحام الشديد لأجساد عارية، في غرفة صغيرة الحجم مظلمة، فتشتد درجة الحرارة مهما كان الطقس بالخارج، ثم الشعور بالاختناق الدائم في هواء عفن دون أن تصل الحالة إلى الوفاة. فهناك مشبكة صغيرة على الباب الحديدي. ولكن بقاءهم أحياء من نتائج قوة تحمل الجسم البشري الذي أعيدت برمجته من أجل العبادة المتمثلة في السخرة في كل أشكال الشقاء. فما أن فتح السجان النافذة المشبكة حتى امتدت عشرات الأيدي منها في توسلات باكية تترجى رحمته ليخرجهم. لعنهم السجان وتوعد من يتحرك دون إذن ونادى على رقم 474 ليستعد ثم فتح الباب.

ظهر ما داخل الزنزانة لتصحح أنيكا معلوماتها، عرضها متر وثلاثة وثلاثون سنتمترا، حشر فيها سبعة وستون بشريا، عراة يتقطرون عرقا الذي تجمع في بركة عند أقدامهم المشوهة مقيدة إلى بعضها البعض بالجنازير. سحب السجان الرقم المطلوب: 474. وقبل أن يقفل الباب من جديد تصاعدت النداءات من ألسنة المعذبين من عند سجانهم ليخرجهم ولو قليلا، الذي ارتسم تعبير أنفة على وجهه، وقارنت بينها وبين تعابير لوك، هناك تشابه مريب، يفسد فهمها وما توصلت إليه عن المخلوقات البشرية.

تسلم ضابط آخر الرقم بحجرة مكتبية وسخة، هناك طاولة وكراسي خشبية قديمة للتحقيق ثم المعدات البسيطة للتعذيب، كإطار مطاطي للعربات، حبال، أدوات للضرب كالعصا وسوط مصنوع باليد، أصفاد قديمة عليها بقع دم جافة ووسخ بني… لا شيء ذي صنعة عالية.

كان الرقم 474 معصوب العينين، ذكر وزنه يقدر ب59 كغ، تعرض لتجويع ممنهج، على جلده طبقة سميكة من الوسخ، أما العلامات الحيوية فقد كانت ضعيفة إلا أن جسده لازال قادرا على العيش لسنين طويلة بالوضع نفسه. وبدأ ما يسمونه بالتحقيق، حشر الضباط الحاضرون الرقم 474 في إكار العجلة وانهالوا عليه الضرب والمسبات. عندما كاد جسد الرقم يصل لحدود تحمله، أصدر فمه أصوات غير منتظمة، مصحوبة بتشنجات عضلية في الطرفين العلويين. لم يتم تسجيل كلمات مفهومة ناهيك عن معلومات مفيدة، رغم تكرار تعبير ‘يا إمي’ 17 مرة، لا توجد فائدة تحليلية لهذه الكلمة في سياق الاستجواب. إلا أن ترديد الكلمة يرجع لأسباب تتعلق بأن البشري يفوق غيره من الثدييات بارتباطه الوثيق بالأم. وذلك عائد إلى الذاكرة، ولكن الذاكرة بحد ذاتها شكلت المعضلة الكبيرة لكل من سبقوا أنيكا. 

اختلست النظر إلى لوك الذي انشغل باللعب في أصابعه المحرومة من هاتفه الذكي ثم همست: “أتشعر بالملل؟” “كنت في انتظار شيء مميز بعدما سمعته عن المعتقلات بسورمادا” “إذن قمت بجولات سياحية من قبل” ورد عليه بابتسامة مستخفة: “مكسيكانو، إنديا… الشين مذهلون جدا، عبقريون بهذا المجال. ولكن الأفضل بقلب أفريقيتنا البديعة، لم أر بشرا يعذبون بشرا بتلك الهمجية ال..” وانفلتت منه شهقة اشتهاء طويلة.

تكررت نداءات الرجاء والتوسل من الرقم بشكل متواتر مما أثار حنق لوك، ورغم أن التحقيق لم يفضي إلى معطيات يمكن تصنيفها كمعلومات أمنية، إلا أن الضباط استمروا بعملهم. سأل لوك وهو يهمس بمحاذاة أذنها لكيلا يزعج الموظفين في تأدية عملهم: “إنهم حتى لا يسألونه عن شيء مفيد؟” ردت ببداهة شديدة: “هذه المعتقلات لم تصمم للحصول على نتائج عملية” “وهل قاموا بتصميمها من أجلنا؟” لم تستطع التقاط النبرة هل يسخر أم يتفاخر. أجابت شارحة: “بشكل عام، تعذيب البشر للسجناء أو المعتقلين لا يحقق مكاسب اقتصادية، بل العكس هو هدر للموارد البشرية، المالية والزمنية. إلا أنه على المستوى الاجتماعي متأصل في الحضارات الإنسانية لفائدته الكبيرة في ‘تأديب الوعي’ بالبنية الاجتماعية” علا تعبير إدراك على وجه لوك وعقب: “لهذا في كثير من الدول تصميم المدارس يشبه تصميم السجون” لم تعلق فليس لديها معطيات كافية حول ملاحظته. أضاف مشككا في كلامها: “ولكن بسورمادا هناك من يحقق ثروة من عمل كهذا” “إني أتحدث عن طبيعة المجتمعات بشكل عام في التاريخ المدون ولكن يبدو أنك تعرف الكثير”

أمال رأسه إليها: “عندما كنت طفلا، مرت من أمامي أحاديث.. تستطيعون القول أنها من العيار الثقيل. على كل، سمعت أن هناك معتقلون..” ورسم علامتي اقتباس في الهواء مفسرا: “أشخاص يشكلون مشكلة لجماعات فيريدون منهم الاختفاء دون أثر حتى لجثتهم، يعتقلون في سجون جوفية في بلدان كسورمادا أو مكسيكانو، وهكذا هم أحياء لذلك لا توجد جريمة. أيضا يمكن لشركات عديدة حربية أو طبية إجراء تجارب معينة.. حتى الاختبارات النفسية..” لم ترد فكلامه غير مزود بأدلة لتعتبره حقائق. تابع: “وأيضا الجولات السياحية.. لذلك فهناك فوائد” “لم أقل أنه ليس هناك فوائد” رفعت الإصبع الأول: “التعذيب بشكل عام، يساعد على خلق طبقات اجتماعية خاضعة لا تجرؤ على التمرد، مما يرسخ المنظومة الاقتصادية لصالح قلة” الإصبع الثاني: “وبالأنظمة الاستبدادية، يؤدي التعذيب إلى ترهيب العمال والمعارضين مما يضمن الاستقرار القسري ويسمح باستغلال القوة العاملة بشكل مكثف من دون مقاومة” الإصبع الثالث: “يصبح التعذيب أداة لإدارة الكثافة البشرية وضبط..” واستخدمت حركته الخاصة بعلامتي اقتباس: “‘تكاليف’ السجناء، من خلال خلق تراتبية رعب داخلية، فمثلا السجناء يضبطون بعضهم أحيانًا، مما يقلل الحاجة للرقابة المباشرة” والإصبع الرابع: “التعذيب العلني أو المسرب، مثل التسريبات التي تُظهر معتقلات أو فيديوهات إهانة، يصبح أداء مسرحيا، يرسخ السلطة في اللاوعي الجمعي” الإصبع الخامس: “والتعذيب قد يكون حقيقة حتمية في التاريخ المدون، فما قبل الدولة كان التعذيب عبارة عن طقس قبلي، رمزي أو ديني. ثم بعصر الدول الإمبراطورية أصبح أداة سياسية علنية لزرع الرعب. أما في الدولة الحديثة، يتوارى إلى الظل معظم الأحيان، وقد أصبح أقذر وأعقد فهو يمكن ممارسته تحت غطاء القانون ويتغير شكله لإداري ونفسي وغيرها من الأشكال” وحركت يديها مجتمعة: “فهو بالدولة وسيلة رمزية لإعادة تعريف ‘الحدود’ بين المواطن الصالح والمجرم، بين المطيع والمخرب. وعلى مستوى الفرد، فهو يمارس من أجل التفريغ أو إشباع لذة ما” انفلتت ضحكة قصيرة منه وسخر: “إنك مثل آلة في سرد البلا بلا” “لست آلة لكن يمكنني أن أصنع واحدة تتفوق عليك بسهولة” قال وقد أصبح صوته مسموعا أكثر لانخفاض صيحات الرقم الذي يجرى تعذيبه: “قلت أن التعذيب حقيقة حتمية، أنا لا أوافقك في هذا” “بل قلت قد يكون” وهز رأسه: “إنه ليس حتميا إنه.. سهل فقط” وأطلق تنهيدة ملولة: “إني فقط أبحث عن الإلهام” وبدا أنه لا يجده فقد فقد الرقم الوعي وتم سحبه إلى مهجعه.

أعلمهم الضابط بأن وقتهم انتهى، لينهض لوك وقد خبا نشاطه. وهم يقطعون الممر نحو السلالم، تدحرج جسم بشري على الدرج، هيكل عظمي بارز من تحت طبقات الجلد المبرقعة، تقيأ الدم قبل أن يحمي رأسه بذراعيه. كان بحفل استقبال لسجين جديد من قبل مجموعة من الضباط. توقف أحدهم قبل أن ينهره قائده، أراد الضابط أن يعرف من الضيوف ولكنه التزم الصمت، فلابد وأن الأوامر صارمة من هذه الناحية، ثم مضى لعمله الروتيني، إبراح بشري مثله بكل كراهية وحقد، وغيره بمتعة وتشفي… لم يكن الضيفان خفيين عن بقية الضباط، إلا أنهم لم يقتربوا منهما. أوامر تعني أن يؤدوا أعمالهم كالمعتاد دون أي تغيير في المعتقلات الرسمية، في حين على الضيوف التحرك في داخل المعتقل مع مرافقة دائمة، وعدم التدخل أو الدخول بحوار مع أي كان؛ كان سجانا أو سجينا.

والأوامر الصارمة هنا تحكم جميع الضباط في حين أن الشوارع والمدينة غارقة في أعماق الفوضى والدمار. لا، إن الضباط أنفسهم مرتعبين مما يعلوهم. ارتسمت ابتسامة على شفتي لوك وهو ينظر إلى السجين الجديد الذي يسحج على الأرض في يأس ليفر من الرعب الأليم، فإذا بضابط يصعد درجات قليلة ثم يقفز على بطن السجين بوزنه الثقيل، لتخرج الأمعاء وما كان في معدته.

انفلتت ضحكة من الذي قفز مندهشا من قوته وهو يحدق في أمعاء السجين المبعثرة، وبنظرة جانبية لمحت أنيكا نفس التعبير على وجه لوك. وها هي ترصد تشابها آخر، ليستيقظ داخلها عدم فهم آخر في الطبيعة البشرية.

*******

الجولة الثانية

لاحظت أنيكا الأعين التي تراقبها، رغم أن أجهزة التصنت ممنوعة إلا أن ذلك الضابط بالشارب الهتلري، يحوم حولهما كجرذ وهما يتجهان نحو غرفة لوك. خرجت فتاة ليل من الغرفة، ثم أخذ وقته ليرتدي ملابسه للمغادرة. قالت وهما في الطريق باليوم الثاني من الجولة السياحية: “هل هذا ضمن الجولة السياحية أيضا؟” “لا، فقد طلبتها. لم تكن أفضل من سابقاتها” وزفر: “إني أبحث عن الإلهام، أصدر ألبومات عديدة ولكن في الحقيقة لم أؤلف شيئا عميقا مثيرا..” ووضع يديه على صدره يأخذ نفسا عميقا: “ولكن عملية الجماع مفيدة للهيئة البشرية كما تعلمين” ثم حملق فيها مدركا حتى وإن لم تظهر شيئا: “لم تجربيه من قبل” وأطلق نخرة: “كيف ستفهمين الطبيعة البشرية إذن؟” ردت: “هدفي أكبر من ذلك” وانتظر لتضيف شيئا فاعوجت شفتاه نحو الأسفل: “ألن تشاركيني هدفك؟ وأنا الذي أشاركك جولة ليس لها مثيل، فاليوم طلبت منهم جرعة مضاعفة بعدما دفعت أكثر قليلا، سنقوم بجولتين الليلة بما أننا سنغادر صباحا”

كانت الجولة الرئيسية بأشهر السجون بالعاصمة السورمادية. فلابد أن لوك ضاعف المبلغ الذي دفعه بالبداية ليسمح له الدخول إلى هذا المكان. كان المبنى أشبه بالمدرسة بشكل حجراته وطوابقه، أثقلت خرسانته بعدد كبير من البشر، بينما لوك يتأمل بأنفاس طويلة أنيكا ظلت ترمقه بنظرة جانبية حذرة، فسأل: “أأنت خائفة؟ أتودين المغادرة؟” ردت: “لا”

انفصلت أنيكا عن لوك الذي دخل إلى حجرة تعذيب خاصة حيث يختبر تعذيب البشر بنفسه. وبعد لحظات من الانتظار، سمحت أنيكا لنفسها بالتحرك فلم يعترضها الضابط المتشكك واكتفى بتتبعها، ليراقبها أم يحميها، لا يهم في كلتا الحالتين. وقفت عند أحد المهاجع التي فتحت، كان دورهم في دخول الحمامات. البيئة المقززة بالنسبة للبشر أعادت لأنيكا كل تساؤلاتها حول من يتحمل المسؤولية البشر أنفسهم، الزحافيون والسماويون في صراعهم المستمر للسيطرة على الأكوان، الآلهة إن كان لها وجود… خرج المعتقلون في صف طويل عراة إلا من قطعة ملابس داخلية رديئة. بالخارج كان الفصل شتاء، وبالداخل جحيم بشري من اختراع بشري.

لم يكن لحمامات باب، ثلاث حفر حيث يضع البشر مخلفاتهم، وعند مدخلها وقف السجان. يقوم بعمله بأريحية، وقف السجناء بصف طويل، يعطي الإشارة للثلاثة الأوائل من الصف ثم ينطلقون بين هو يعد: “واحد.. اثنان.. ثلاثة” ثم يجب على السجناء الثلاثة التوقف والعودة إلى الصف سواء انتهوا من قضاء حاجتهم أم لا. فكل من يتأخر يوقفه عند الحائط لنيل الضرب. بعضهم لم يجد صعوبة إذ لا تقدر أجسادهم على إنتاج البول أو الغائط، فهم لا يأكلون نادرا. ومن الشفاه المتشققة والجلد المغبر بقشرة والوسخ ذي طبقة جافة يتضح أن معظمهم لم يحصل على مياه إلا ما يكفيه للبقاء على قيد الحياة. ففي آخر الصف وقف شاب لم يكمل العشرين يكاد يسقط وقد انكمشت شفتاه وابيضت.

تنبه السجان من الضيف الغريب ذي البذلة العسكرية الغريبة، فأجاب من يرافقها: “أوامر” فتجاوز الموضوع إلى ثرثرة. يشكو لرفيقه الضابط عن أجرة الشهر التي لا تكفيه إلا أياما. والتزم السجان المنهك على عدم إعطاء أي سجين واحدة من أهم الحاجات البيولوجية لأي مخلوق أرضي، حاقدا عليهم فبسبب كثرتهم بعد سنوات الثورة، أصبح يعمل ساعات إضافية دون زيادة أجر.

ومن بين البلبلة، لمح سجين أزعر أنبوب مياه محطم. تجاوز الصف نحو نهايته وساعد الشاب العشريني الذي كاد أن يسقط ليشرب منه مستعينا بزاوية جدار وبانشغال الضابطين بالكلام وبالسخرية من الأجزاء السفلية السجناء وخصوصا حين يعجز سجين على التبول. أخذ الشاب جرعة من ماء الأنبوب وأغمض عينيه متألما من شدة برودته إلا أنه سارع بشرب المزيد والسجين الأزعر يراقب بعين مرتعبة سجانه، كان جسده عريضا وجلده مترهلا يوحي بأنه كان ذا جسم ممتلئ يوما ما، له وجه دائري وتجاويف غائرة وأيضا شفتين متشققتين مبيضتين، بشرته الباهتة تظهر أنه أيضا محروم من الماء لمدة إلا أنه لم يبادر بالشرب أولا. ثم انتبه إلى أن هناك من يراقبه. ظلت عيناه متسمرتين نحوها، فهي كانت تقف بمحاذاة الجدار في لباس عسكري كبقية الضباط. ينتظر برعب العقاب منها.

تشتت انتباهه ليقبض السجان عليه من قفاه، وأخذ يجلده وصاح: “ليك يا ابن الكلبة الشرموطة، شو؟ قال بدك تساعد، هذا الذي تود أن تساعده، هذا؟” وطرح السجين المريض بضربة من عصاه نحو الوجه، وركله أمام رفيقه. كانت عضلات السجان تعاني من نقص الفيتامينات() واتضح ذلك في الجهد المبذول، وتقطر العرق من جبينه وهو لايزال يركل السجين المريض الذي تقيأ نتيجة انسداد معوي واتسعت حدقتاه في حين انخفضت المؤشرات الحيوية إلى أن توقف الجسد عن العمل. ورغم ذلك ظل السجان يركل ومن مؤشراته يتضح أن يعاني من ضغط دم مرتفع نتيجة التوتر.

بينما من يرافقها أشعل سيجارة وتثاءب متعبا، خطف نظرة نحوها، فقد أن كل ما يرجوه هو انتهاء مناوبته، ثم أوقف رفيقه مشيرا ألا يتعب نفسه أكثر فالسجين قد مات. وسحب الضابط الثالث الذي كان أصغر سنا وأقل منصبا ومرعوبا أكثر من بعض السجناء القدامى، الجثة إلى الحمامات. التفت السجان إلى مسبب المشكلة، رفع السجين الأزعر يديه نحو رأسه يترجى الرحمة، وهو يحدق بمن كان السبب في موته لمساعدته.

تسارعت أنفاس السجان وشده من كتفه العاري قال: “يا ابن القحبة، ليس هناك مكان لك في الانفرادي..” ثم ينهره ليقوم. تتحرك أنيكا هي كذلك، مما يجعل السجان يسأل مرافقها الذي يهز كتفه متمتما من جديد: “أوامر..” يرفع السجان يده بحركة عصبية غير مبالي بالضيف الأجنبي، في حين يسحب سجينه ماضيا بين ممرات متشعبة يحفظها عن ظهر قلب، كان في الخمسين من عمره بالرغم أن جسده يعاني من اضطرابات ستؤدي باحتمال سبعين في المئة إلى سكتة دماغية بعد سنة ونصف.

فتح بابا خشبيا عكس كل الأبواب الأخرى ورمى السجين وأقفل عليه عائدا إلى العقاب الجماعي الذي توعد به الباقين. اتجهت أنيكا نحو الباب المختلف، أشار المرافق بحركات وكلمات لتفهم أنه مكان ممنوع ودمدم: “آخخ على هاي الشرموطة الهبلة..” نزعت سوارا وقالت: “ألماس..” تردد الضابط في خوف ثم نظر أن لا أحد حولهما، أخذ السوار وتأمله في شك ولكن كان يعلم أن الضيوف مثلها من أصحاب السلطة والمال.

فتح الباب لها، وحين دخلت أوصده.

ظلت عند الباب تراقب بدون حركة أو صوت. أما السجين فكان على ركبتيه يشهق من البكاء في رعب ينظر إلى الغرفة الغريبة. وبعدل لحظات استيعاب لصدمة موت رفيقه، وقف لتغوص قدماه في الملح الصخري، سرح نظره على امتداد القاعة المستطيلة بعرض سبعة أمتار وستة سنتمترات وطول عشرة أمتار وخمسين سنتمترا، غير مكتشف ماهيتها. وفي حركة لاواعية منه، غرف الملح بيده ووضعه بفمه بجسده قام بهذه الحركة اللاوعية لافتقاره الشديد إلى الصوديوم. الملح أساسا لم يكن مكونا رئيسيا في طعام البشر، وبعد اكتشافه صعب انتقال الطاقة ما بين مادتهم بالعالم الحسي وغيره من العوالم، مما يخلقه الصوديوم من تشوهات في الحقول المغناطيسية المختلفة.()

بعدما ذاق السجين الحائر لذة الطعم المالح الذي حرم منه لسنوات، استمتع لحظة بالنكهة، ثم جاب بصره من جديد في رعب يحاول فك لغز الغرفة الغريبة فإذا به يرى حماما. يخرق بقدميه طبقة الملح التي بسمك حوالي ثلاثين سنتمترا، من الصعب تحديد السمك لعدم اتساق حبات الملح في بنية هندسية ثابتة. مضى السجين بحذر وهو لم ينظر خلفه بعد، لكن يعود ذلك إلى خلل في رؤيته الجانبية وأذنه اليمنى، بعد تلقيها صدمة ضربة لم تشفى كما يجب.

يمضي إلى الحمام الخالي الذي غطيت أرضيته بالملح أيضا، وإذا بقدمه تتعثر، نظر إلى الأسفل ببطء، كأنه توقع ما سينظر إليه، كانت ساقا نحيفة. وإذا به يدير رأسه يمنة ويسارا ليلاحظ الجثث المتوارية تحت الملح. أطلق ثلاث صيحات قصيرة النفس متتابعة ثم أخذ يلتقط أنفاسه ممسكا بصدره ويبصق ثم إذا به يلمحها.

يرتعب أكثر، يسقط على الأرض، يزحف في بحر الملح، ثم يصطدم بجثة محنطة، ثم يصرخ ويلهث، يحدق إليها هو يهز رأسه في رجاء خوفا من بطش من يراقبه. مضت أنيكا نحوه وسألته بلسانه: “ما اسمك؟” “عفوك سيدي عفوك..” “ألا تلاحظ أني امرأة؟” لم يستوعب السجين سؤالها فحاله الهلع بلدت ردود فعله وقدرته على الإدراك، أعادت السؤال بنبرة أخف: “ما اسمك؟” “أنا.. أنا الرقم 5657” وحك الذراع التي تحمل أول علامات الجرب ولكن الحراس لم يستوعبوا بعد أن انتشار المرض بين السجناء والذي سيسبب لهم مشاكل كثيرة. قالت حاثتة إياه: “أخبرني عن اسمك قبل اعتقالك؟” “اسمي.. اممم” وراحت عيناه تسافر دون وجهة. “ألا تذكر اسمك؟ أتذكر اسما آخر؟”

دور رأسه في جهد جهيد وتمتم: “إمي..” “أمك؟ تذكر اسم أمك إذن..” “ب.. بثينة” الأم ثانية.. “وبما كانت تناديك أمك؟” “ر.. رأفت؟” انخفضت مقرفصة أمامه: “أتشتاق إلى أمك؟” أماء برأسه فلازال مسافرا بذاكرته، لازال يحمل ثقلها معه في الجحيم. سألت: “لماذا ساعدت ذلك السجين؟ فقد كان سيموت في كل الأحوال”. لكنه سألها وقد رجعت عيناه من السفر ناظرا إليها: “أنت لست إنسانا” رمشت، هل نسيت أن ترمش؟ فهذه العملية صعب جعلها تبدو طبيعية. ردت: “لماذا تقول ذلك؟” جمع كفيه ناحيتها في رجاء: ” قولي لي ليش عم بتعذب؟ ليش الله عم يعذبني؟” “هل الله هو من يعذبك الآن؟”

ثم فتح المرافق وجمجم برجفة في صوته بأن تغادر. ألقت نظرة أخيرة إلى رأفت السجين 5657 بسجن صيدانيا. كل هذه الرحلات لم تفدها بشيء وإنما أكدت جهلها إلى حد الآن.

خرج لوك من سجن صيدانيا كمن حضر حفلة رفقة أصدقاء مقربين مليئة بالبهجة والمرح. فور أن استقلا السيارة سأل بفضول: “سمعت أنك تفاعلت مع أحد السجناء، أكان مميزا؟” هزت رأسها: “كان بشريا إلى أقصى الحدود”

*******

الجولة الثالثة

استراح لوك في بار الفندق لخمسين دقيقة سأل: “ألن تطلبي شيئا؟” “لا أشرب” ضحك وقال: “يبدو أن الجولة السياحية لم تعجبك إلى حد الآن” “كلمة إعجاب توحي بالمتعة لذلك سأقول إنها مفيدة إلى حد ما” “وماذا استفدت؟” ردت بنبرة تقريرية: “أن الزحافيون والبشر يشتركون في صفات أكثر مما توقعت” دور لوك القشة في كأسه معتبرا أنها تهينه في حين أنها قدمت مثالا عما استفادته ثم استدرك: “تقولين ذلك لأنك لم تري عمي كوهين على حقيقته، إنه بشري حقير إلى أقصى الحدود” “حقا؟ هل يمكنك تسهب مع مثال عن ذلك؟” انفلتت منه ضحكة ثم قال: “يا للأسف، اعتقدت أنك أكثر إثارة من هذا” ومسح عنقه من تحت القبعة الملونة وقال: “لا عجب أن الآغارثيون كانوا مجرد خدما منفذين وتابعين” لم تكن تشعر ولكن.. كل مخلوق يعتز بنوعه على طريقته. أكمل مشيرا إلى النادل بإعادة ملء كأسه: “الاستمتاع بالقوة يعطيك مزيدا من القوة”

في الجولة الثالثة، سارت بهم عربة الفيات القديمة مسافة طويلة ثم أكملوا الطريق سيرا على الأقدام معصوبي العينين. أمامهما رجل ومن خلفهما رجل آخر. ثم طُلب منهما التوقف وسمح لهما بإزالة العصابة. كانا بمكان شبه صحراوي، وبالظلام بدا الرجلان الملثمان أشبه بشبحين. كان لوك أكثر حماسة لهذه الجولة حينما دخلوا إلى مبنى شبه مهدم، ومن تصميمه الهندسي يتوضح أنه كان معبدا قديما أشبه بالأديرة المسيحية. علق لوك: “لطالما كانت دور العبادة مكانا مذهلا لتحول حاد في العواطف” وفتح يديه: “ومن دير يتعبد فيه الناس إلى معتقل لتعذيب الناس، أمر مثير للاهتمام..” ونظر إليها بعجرفة.

شكلت أقبية المبنى زنازين في حين قاعة الصلاة الكبرى ساحة للتعذيب والتنكيل. فعند دخول الضيوف، كان هناك رجل وابنيه مما يظهر من تشكيل عظام الجمجمة المتوارثة بينهم هم الثلاثة. جلس لوك مرتاحا أكثر، فمركز الاعتقال الحالي لم يكن رسميا، وعناصر الضباط كانوا أكثر على سجيتهم فمنهم من كان مدنيا. قدم أحدهم لهما الشاي الساخن

أما أنيكا فمنطقها يوحي بأنهما في مكان خطر، فقد كان منصبهما ومالهما يجبر النظام على حمايتهما ماداموا تحت رعايته رسميا. ‘رسميا’ إنها اللفظة السحرية التي كانت تحميه. كان الأب وأبناؤه في ثيابهم متفاوتة بالاتساخ وقطرات الدم، والتعابير متفاوتة بين الغضب والشعور بالذل والخوف بين كل منهم.

شارك لوك في التعذيب، فقام بصعق الابن الأكبر الذي كان أكثر عناد فأخذ سجانوه يتفنون في تعذيبه وإذلاله أمام والده وأخيه. تمتم الأب: “الله لا يوفقكم.. الله لا يوفقكم.. ليكو اتركوه وهذوني أنا خذوني أنا” ركله معتقله بحركة فاترة وفي فمه سيجار يكاد ينتهي، بينما الآخرون يحملقون في لوك ذي الملامح واللغة الأجنبية في سخرية من تعابيره المندهشة بشكل مبالغ كلما فعل ضغط لتشغيل المولد الرخيص، وقال كطفل صغير: “هذه أول مرة أجرب صعق أحد، الرائحة تشعرني بالجوع” صاح أحد الرجال: “أعتقد أنه قال جائع، أعطوه ضيفا شيئا يألكه” وسأله بحركات كمن يتحدث إلى أبله: “شو بدك تاكل؟ واتس يو وانت تو تاكل… اكل؟” رد لوك بهدوء أكبر: “لنجرب أن نجعلهم يعذبون أنفسهم..” ثم أعاد قولها بشكل مبسط إلى أن فهم مستضيفوه. نهض واحدا منهم، والذي كان جالسا يتفرج، وعندما وقف أتاح من معه ليقف إلى لوك مما يدل على أنه من يدير المكان. قال: “فهمان عليك حبيبي. تريد شيئا سبيشال، موهيك؟ وحنا كمان ما راح نقصر معك، فهدول لازم نخليهم عبرة لمن لا يعتبر”

أدخلوا امرأة حامل لينهض الأب والأبناء يتصارخون ويلعنون، وقال الواقف للوك: “هيك نعمل شمل العائلة مثل ما بتعملوا في بلدانكم بس عطريقتنا” داعب لوك شعره الناعم وعدل القناع المزخرف ثم تمتم لصاحب الأمر الذي ما أن فهم فكرته حتى نظر إليه وقال: “هذا جيد، غود حبيبي غود” وقال لأصحابه: “الزلمة يعتقد نفسه متفننا بس خلونا نسايره”

قاموا بتعرية المرأة أمام زوجها وأولادها، ومن بين الصياح والرجاء، تجاهلت أنيكا الذين يديرون مركز الاعتقال غير الرسمي وراقبت لوك المستمتع بما يقومون به. فها هم يتناوبون على اغتصاب المرأة أمامه وهو يتأمل فيما يفعلون وهو يعض إبهام يده. الاغتصاب..() إنها عملية صعبة فعل يثير انفعالات وعواطف حادة متضاربة، فالمراقب المحايد يشمئز يحتقر ولكن بنفس الوقت تثيره الرغبة الحيوانية، الفاعل يستشعر قوة ولذة والمفعول به تتضاربه مشاعر الهوان ويفقد قيمته كذات. لكن هنا، كل شيء أشد ومضاعف، فالفاعلون متعددون والمراقبون مختلفون ما بين مشمئزين أو مستمتعين وما بين منصدم مقهور يتمنى الموت يكره نفسه لأنه خلق على هذه الأرض، فالابن الأكبر ارتج في مكانه إلى أن وضع به الكرسي المقيد عليه ويصيح بنفس مكتوم حيث كمم فاهه بقماش مبلل بسوائله من لعاب ومخاط ودم. والأب أخفض رأسه ولم يعد له قيمة كمخلوق على هذه الأرض.

إلا أن لوك رغب بما هو أكثر، فكل ما يحدث ليس بجديد عليه، فهذه فرصة لم تتح له من قبل، أن يعذب بنفسه، أن يجرب بنات أفكاره. واستدار ناحية السجناء، وتمتم لصاحب الأمر مشيرا للابن الأصغر الذي تعلو تعابيره الصدمة مما يحدث أمامه، كان فتى في الخامسة عشر من سنه مما تشير إليه الغضون تحت العينين، لمعان البشرة وغضاريف يده.

وحين ظنت المرأة أنهم انتهوا، وقد استسلمت منذ زمن، ظلت راقدة على الأرض تنزف. في معظم المآسي يختار الرجال تعذيب النساء باغتصابهن، الانتقام باحتلال أجسادهن التي قدسها الإنسان لأزمان طويلة، يشنون حربا على الرحم الذي لم يستطيعوا الذي مهما فعلوا فلن يقدروا على امتلاكه.

ارتسمت ابتسامة عوجاء على صاحب الأمر. وأجبروا الفتى الصغير على القيام ليقف بالقرب من أخيه الأكبر، ثم نزعوا أسنانه واحدة تلو الأخرى، وفي تلك الفترة كان من السجانين من ذهب ليأخذ استراحة قهوة، ثم انتقلوا إلى الأب يحرقون أعضاءه الحساسة بأعقاب السجائر مع الضرب والشتم. روعوا الفتى ثم قدم صاحب المكان الصفقة: سيتركون أخاه وأباه شريطة أن يغتصب أمه. لن يكون قادرا على فعل ذلك، فمن ناحية إن تلك المرأة المتمثلة في الأم هي أبعد امرأة يمكن أن يفعل بها ذلك ومن ناحية تحت هذا الرعب تشللت حواس الفتى اليافع تماما.

بيد أن صاحب الأمر كان لديه الحلول الجاهزة لسعة خبرته، فقد كان لوك ذلك الشيطان في الأساطير الدينية، إلا أن البشر المحيطين به الآن كان يسخرون من براءة انبهاره.. أجبروا الفتى على ابتلاع حبة فياغرا، ووضعوا فوهة مسدس في فم أبيه وحد سكين عند رقبة أخيه. كانت المرأة التي تتألم وتنزف تئن باسم ابنها وتبكي عليه. أجبروه على اغتصاب أمه وهم يشاهدون بالشتم والسخرية  

بينما لعب لوك بأصابعه لحنا وقد تمتم بينه وبين نفسه بصوت عال: “لقد حصلت عليه أخيرا، الإلهام الذي أردته”

ومع قروب بزوغ الفجر، رافقهما صاحب السيجارة مع توديع حار ورجاء بأن يكررا الزيارة. صعد لوك إلى السيارة وهو يردد كلمات أغنية استلهمها مما رآه: “يو ميك مي هارد بالرغم لا اريد ذلك..” قاطعت أنيكا شروده: “ألا ترى أنه أمر غير منطقي، أن يرافقونا بالبداية وهم ملثمون ثم يقررون نزع لثامهم بعدها” “وما الغريب؟ لقد استحققنا ثقتهم” لم يخب توقع أنيكا، فقد توقفت السيارة بغتة، ثم نزل ملثمون من عربة أخرقوا، أجهدوا على السائق ثم سحبوهما وألقوا بهما على الأرض. كان احتمال حدوث هذا مرجحا فظلت هادئة على ركبتيها ويديها خلف رأسها. أما لوك فقد أخذ يشتمهم متيقنا من نجاته، للزحافيون قوة أكبر من ناحية الطاقة وليس المادة، لذلك نظر إليها فقد كان لوجودها معه سبب آخر.

تحولت يداها من لحم ودم إلى خراطيم طويلة واختارت التيتانيوم، أجهدت على مجموعة المختطفين في ثوان ثم السائق الذي كان شاهدا. وقف لوك على قدميه ونفض غبار الصحراء عنه قائلا: “من الآن وصاعدا سأصحبك معي إلى كل مكان” “للأسف أرفض دعوتك المغرية” “ولما؟ هل أخافوك؟ فالعكس هو الصحيح” مشيرا إلى الجثث المقطعة إلى قطع متساوية ثم خرق خرطوم دقيق من يدها أنفه واتجهت نحو قلبه. جحظت عيناه في صدمة وعندما أخرجت الخرطوم بجدر لكيلا تفسد الجثة ثم وقع على الأرض. تأملت فيه. غريب.. كانت تريد أن تفهم المعضلة التي تسبب بها البشر وها هي تخطط بتشريح زحافيا بدلا من ذلك.

*مقتطف من سلسلة روايات قيامة عشتار